الأستاذ الأديب الشاعر عبدالله الحمد السّناني - رحمه الله - ذو باعٍ لا يستهان به في دنيا الشعر الرصين، عرفتُه في عنيزة قبل أربعة وخمسين عاماً بالتمام والكمال، كان معلماً وكنت أعمل في التدريس، وبحكم المهنة المشتركة حدث بيننا لقاء أعقبه لقاءات، وتأسّستْ صداقة ما لبثت أن نَمَت وقويت واشتدّ عودها وبقيتْ على الزمان.
شاركته في عضوية إحدى (الدوريات) الليلية التي كنت أتردّد عليها وأتسامر فيها مع الزملاء والأصدقاء على ضوء (الإتريك إلى أن تذبل الفتيلة تماماً وتوشك على الانطفاء) فينفضّ السامر ويتفرّق الأعضاء، وقد نعمتُ فيها بصحبته، وأنستُ بمودته، وأعجبتُ بلطفه ودماثته، واستمتعتُ بمسامراته وأدبه وأشعاره.
الأستاذ عبدالله السناني نظم على امتداد حياته غير الطويلة القصائد الجياد، المزدانة بدرر الألفاظ، والمتلألئة بجواهر المعاني، في أبيات رشيقة ممتعة يدعو بعضها بعضاً في الوقت نفسه للتأمل العميق، لما فيها من المرامي البعيدة والمقاصد الشديدة، وتحملك جميعاً على الشعور بالمتعة والانشراح، لما وسَمَها من التطريب الجميل، على أوزان الخليل.
كان رحمه الله (إنساناً) بكل ما في هذه الكلمة من معانٍ، مهذباً لطيفاً تراه ولا تكاد تحسه كالطيف، خفيف الظل، أنيس المعشر، لطيف العبارة، ذكيّ الإشارة، فيه من الصفات الحسان ما لا حصر له جعلته مستحقاً للمديح الوافي والثناء المعطَّر بدون مجاملة أو غلوّ أو إفراط.
هذا على الصعيد الشخصي والمهني، أما على الصعيد الأدبي، فقد كان شاعراً ذوّاقة، شعره رقيق الحاشية مثله، أنيق أناقته، رقيق رقّته، متين متانته، عميق عمقه، غزير المعاني كروحه ووجدانه وعواطفه، جزل المباني كشخصه وذاته وكيانه.
لن أتعرّض في هذا المقال الموجز لشعره بالفحص والدراسة والنقد الذي لا تتجاوز بضاعتي فيه ولا يزيد مخزوني منه عن حدود التذوّق الانطباعي، ولكني أقرر واثقاً مطمئناً أنّ شاعرنا المتميّز بشعوره المرهف، والممتاز بشعره المتصف بالحيوية والزّخم والجمال، غني بالكلية عن بحثي المستفيض أو غير المستفيض، وعن إطرائي المفصّل المطنَب عليه وعلى شعره.
لقد اختطفت يد المنون هذا الشاعر المبدع وهو في أوج عطائه، وما لبث الخلاّن - كالمعتاد - أن نسوه بعد وفاته، بعد أن ظلمه زمانه في حياته، ومن ثم توارى شعره ولم يتح له الانتشار بالمقدار المناسب في إبّانه، على الرغم من جودته وجماله، واستحقاق صاحبه المنزلة الأدبية الرفيعة، بجدارة كاملة، وبحق لا لَبْسَ فيه.
لا بدّ هنا من كلمة تقدير صادقة ينبغي لي أن أعلنها واضحة، هي أنه ليس بمستغرب أن ينبغ في ربوع واحة عنيزة (ذات الماء والخضرة والقلوب الحسنة، ومستقرّ العقول المتفتحة، والنفوس الجميلة، والمكارم الأصيلة، الموسوم أهلها بلين العريكة، وحسن العشرة، وصفاء المودة) هذا الشاعر قد لَمَع في أجوائها قبله ومعه وبعده نجوم ونجوم ونجوم أمثالُه، أولئك الذين أحالوا (عنيزتهم) الغرّاء، وربوعها الفيحاء، إلى روضة غنّاء، يبدع فيها الشعراء والأدباء، إبداعاً يقرّبهم من عنان السماء.
أنا (أتذكّر) من شعراء عنيزة المرموقين، المقلّين منهم وأصحاب الدواوين، إلى جانب شاعرنا الكبير الشعراء الأعلام (مع حفظ الألقاب، والدعاء بطول العمر للأحياء، واستمطار الرحمة على من رحلوا إلى عالم الأمل والرّجاء): محمد السليمان الشبل، عبدالله الصالح الفالح، عبدالعزيز العبدالرحمن الذّكير، عبدالله (البراهيم) الجلهم، محمد العبدالرحمن الفريح، عبدالعزيز المحمد المسلّم، مقبل العبدالعزيز العيسى، عبدالله العبدالرحمن العرفج، عبدالله المحمد المعتاز، عبدالله الحمد القرعاوي، محمد الفهد العيسى، عبدالله الصالح العثيمين، إبراهيم المحمد السبيّل، سليمان العبدالعزيز الشريف، إبراهيم المحمد الدامغ، صالح الأحمد العثيمين، إبراهيم العبدالله التركي، عبدالعزيز المحمد الذكير، أحمد صالح الصالح، عبدالله الناصر العوهلي، إبراهيم العبدالرحمن التركي (العمرو)، إبراهيم المنصور الشّوشان، عبدالرحمن (السماعيل)، محمد خلف الميموني، وقد ورث هذا الجيل المتميّز خَلَفٌ من الشعراء الممتازين الذين جوّدوا مثل سابقيهم وأثْرَوا الشعر العربي الحديث بما نظمّوه، و(أتخيّل) أنه يستعصي عليّ (وقد اعتدى على ذاكرتي الطّعن في السن وأمعنتْ في افتراس جسدي الأدواء) عدُّهم لأسباب متنوّعة لا تخفى.
إنَّ جلّ من ذكرتهم أو أشرت إليهم من السابقين وممّن وَليَهُم يعدّون (دون مبالغة) من شعراء الصف الأول ليس في عنيزة فحسب، بل في المملكة كلها، وربما في غيرها من البلدان الناطقة بالضاد.
وإنّ وجودهم بهذا المقدار الكبير في (حاضرة) بعينها صغيرة نسبياً، وعدد سكانها (ولو تزايدوا) محدود أيضاً، يمثل ظاهرة فريدة قد لا يتاح مثلها إلا نادراً، ولا أن يأتي هذا المثيل في مدينة واحدة أو في منطقة كاملة أو في دولة بأسرها، فإنه لن يكون - في أغلب ظني - بهذا الكمّ العددي العظيم، والكيف الإبداعيّ الأعظم، اللّذين رأيناهما في نتاج شعراء عنيزة وأدبائها وأعدادهم. كم كنت أتمنى أن لو درس بعض هؤلاء الجادين المجدِّين الأذكياء، الرياضيات والفيزياء، والأحياء والكيمياء؛ إذن لنبغوا فيها كما نبغ منهم الشعراء والأدباء، ولأصبح عندنا عدد كبير من الجهابذة علماء الذرّة المهمّين، ومن الأطباء النّطاسيّين المبدعين، والمهندسين المتفوّقين المقتدرين، والباحثين اللامعين المخترعين، لا يقلّون أبداً عن نظرائهم في الدول الكبرى المتقدمة في كلّ المجالات ولكن - للأسف - ما كُلّ ما يتمنى المرء يدركه.
* أستاذ سابق في الجامعة