قرأتُ عشرات القصائد في رثاء الراحل الفلسطينيّ محمود درويش، منذ وفاته وحتى الآن، وكنتُ مع كلّ نص أقرأه أسأل نفسي: تُرى هل هذا النص كان سيقنع الشاعر الفقيد «إبداعياً» لو قدّر له أن يقرأه؟ وكانت ذائقتي تجيب سلباً مع كل نص!
غير أن قصيدة الشاعر اللبنانيّ إلياس لحود، المكتوبة أخيراً، وستكون افتتاحية للعدد الجديد من فصلية (كتابات معاصرة) جعلتني أتقمص دور المرثيّ فشعرتُ بقناعةٍ أن المبدع الحقيقي يظلّ في تماسٍّ دائمٍ مع الإبداع الحقيقيّ مهما تمادى به الموتُ؛ يقول إلياس في مطلع قصيدته - مخاطباً محمود:
(أَأَبْدأُ ممّا تُسمِّيهِ أنْت المُكَثِّرُ: »وَرْدٌ أقلْ«؟
أَأنْدَهُ من كُوَّةِ الرّوح
تلك البنفسجة الْ حَدَّثتْ ذاتَ يَوْمٍ أعاليكَ من أوَّلِ الوَرْدِ حتى المدى الْمُعْتَقَلْ؟؟
أَأبدأ مما تقولُ ويَبقى يُرَدِّدهُ البُرتقالُ امْتِداداً: »هيَ (الْ ) أُغنِيَهْ«...
أَأبدأ من أُغنياتٍ أَقلّ
ومن ذكرياتٍ أقلّ
و... أعيادِ عشْقٍ أقلّ ؟!..)
ولأنّ المبدع، إن رضي بالأقلِّ أقلَّ أحياناً، فهو لا يرضى الإبداعَ إلاّ إبداعاً.. استمرّ الشاعرُ يكتبُ للشاعر رثاءَه شعراً مستذكراً أسماء كتبه (الممنوعة من الصرف) واحداً واحداً، منذ «وردٌ أقلّ» وحتى (أنتَ منذ الآن غيرك). يقول:
(قال لي ذاتَ بيروت!
وكانت نجومٌ من الياسميناتِ قد باعَها الطِّفْلُ زَيْدانُ عقداً ل»ريتّا«
فنسَّقها جِسمُ »ريتّا« قصيدة...
وكنّا على مهرجانِ الشقيفِ نَمُدُّ اللّسَانَيْنِ نحو القوافي بغمْزاتِنا، صاح بي:
الْيَوْمُ يومُك!
كم ضحِكْنا على بعْضِنا. ثمَّ تهُنا بنافُورةِ السّنواتِ المريرةِ نَعْلُو ونهبطُ في طائراتِ المنايا؛
نُعلّي حصانَيْنِ عبرَ القضايا ونسقطُ نحو الصحاري
نُسافرُ في غيْم ماري ورمّانِ ماري
على مهرجانٍ.. ونهبطُ في مهرجانْ.
ها قد تركتَ الحِصَانَ وحيداً
لماذا؟.. تركتَ. الحصانَ. وحيداً. لماذا.. لماذا.. لماذا؟..)
والقصيدةُ طويلةٌ، أعادت إلياس لحود إلى مطوّلات القصائد التي كان قد هجرها منذ فترة لينشغل بالفلاشات الشعرية التي ما استسغتُ فيها شيئاً إلاّ وكنتُ آخذه بمثابة عنوانٍ لقصيدةٍ لم يحن أوانُ كتابتها بعدُ (!) حتى وقفتُ الآن على هذه الضاجة شعراً لشعرٍ، يقول في ختامها:
(...أخيراً صحا اللّوزُ وامتشقتْ سَروتي كلَّ هذا الخرابْ
هَرولَ القبْرُ في النافذهْ؛
إنه صوْتُ محمودَ..محمودُ محمودَ.. طالَ الكلامُ الكلامَ
صِهُوا!
واحْذَروا دائماً أن يقومْ
شاعرٌ من ترابٍ عظيمٍ أبى أن يَذُلّ الترابْ
عاشقٌ من فلسطينَ
عمّرَ كلَّ الحروفِ رجالاً وكلَّ الدُنا عاشقاتٍ وغابْ).
نعم غابَ درويشُ كإنسانٍ كان، ولكنه يحضرُ أبداً.. يكونُ ويتجددُ في كلّ إبداعٍ جديدٍ. أذكرُ (إن لم تخنّي الذاكرة) أنني شاهدتُ مقابلة تلفزيونية، في بدايات ظهور القنوات الفضائية، مع الشاعر محمود درويش، سُئل خلالها عمّن يعجبه من الشعراء في لبنان تحديداً؟ فأجاب (إن أوفتني ذاكرتي) باسمين لا أظنّ ثالثاً لهما: إلياس لحود، ومحمد علي شمس الدين. فمن المفارقات الغريبة أن الشاعرين المذكورين هما من أعزّ أصدقائي في لبنان، بينما لم يحالفني الحظ للالتقاء بشخص محمود درويش (ولا مرّة) حتى رحيله.. وتلك هي خسارتي الكبرى، وقد وجدتُ في هذه القصيدة لهذا الصديق المشترك بعضَ العزاء..
f-a-akram@maktoob.com