Al Jazirah NewsPaper Thursday  22/10/2009 G Issue 13538
الخميس 03 ذو القعدة 1430   العدد  13538
ليلةٌ في برلين (2-2)
عبدالعزيز حمد الجطيلي

 

الإهداء (إلى امرأة هزم اليوم أمسها.. والأمس شهيد!!)

وقفت أمام بوابة المقهى المزدحم.. تكاد تكون كل المقاعد مشغولة

جاءني (النادل) مرحبًا بي.. مرحبًا سيدي أنت وحدك؟

تبسمت له، قلت له: لا أنا و(صورتي) التي بيدي!

ضحك (النادل) لإجابتي الساخرة فضحكت

قادني إلى طاولة صغيرة فيها كرسيان، قال: تفضل سيدي كرسي لك وكرسي لصورتك!!!

جلست على الكرسي، ووضعت اللوحة برفق على الكرسي الآخر.. أضاء النادلُ شمعةً صغيرةً أمامي، ثم قال: سيدي ما هو طلبك؟ قلت له: لو سمحت أحضر لي الشاي الأسود وقطعة كيك صغيرة.. ابتسم النادل بلطف: وماذا تريد أن تشرب صورتك؟

لحظتها قلت له: انتظر دعني أسألها.. فتحت اللوحة وطالعتها قليلاً ثم قلت: صورتي تحتاج إلى عود ثقاب أو ولاعة سجائر.. ابتسم (النادل) ابتسامة صغيرة وذهب ليحضر الطلب.

كان المقهى مزدحماً بالناس.. وأنا جلست وحيدًا أصغي لشوارد نفسي!

أتأمل الشمعةَ الصغيرةَ ويعجبني.. رقصها في ليل كبير لا يعرفها!

فجأة.. وقفت فتاة جميلة عند طاولتي وقالت بالعربية: مساء الخير سيدي.

قلت لها: مساء النور

قالت: المقهى مزدحم جدًا.. هلا أن أجلس بالكرسي الخالي أمامك.. أخليت الكرسي الخالي من اللوحة فقلت لها: تفضلي ولكن على شرط.. أريد أن أضيفك أنا وأنت عرب، وهذه من عوائدنا.

تبسمت بامتنان.. وقالت: لا أمانع.

لحظتها: وصل النادل وقد أحظر لي الشاي الأسود والكيك، وقال هذه ولاعة سجائر للوحة التي معك!

قلت له: أشكرك أرجو أن تحضر ما ترغب الآنسة الكريمة.. تبسمت وقالت للنادل: وأنا أيضًا أحضر لي الشاي الأسود والكيك، أريد أن يتساوى الضيف والمضيف. كانت الفتاة جميلة.. بيضاء، وجهها مستدير، في عيونها السوداء جاذبية وذكاء، شعرها الأسود الطويل كبحر الليل في منتصف عمر الشهر. كانت ترتدي بلوزة بيضاء فضفاضة وتنوره سوداء.. وعلى كتفها شال أبيض طرز بخطوطٍ ملونةٍ.

قالت لي: أشكرك على كرمك.. المكان جميلٌ ومزدحمٌ.

قلت لها: العفو.. إحساسي بجمال المكان أكبر من إحساسي بازدحامه.

قالت: عذرًا سيدي لم أفهم!؟

قلت لها: إحساسك بالوحدة وأنت في غرفتك وحيدًا بعد منتصف الليل يشبه إحساسك بالوحدة عندما تكون في مكان مزدحم وبين أناس لا تعرفهم!

نظرت إليّ وهي تردد عبارة (يشبه إحساسك بالوحدة وأنت في مكان مزدحم ومع أناس لا تعرفهم.. إجابة رائعة رغم أنني أشعر أن المقاهي في ليل المدن كأنها موانئ مضيئة على بحر الظل!).

صمتت قليلاً ثم قالت: سيدي لنتعارف الآن فربما قواميس قلوبنا واحدة.

أنا (ساندرا) ألمانية، ولكن من أصل عربي، أمي وأبي من لبنان، توفيا في حادث سير هنا، وأحسست بعدهما بأن هذه الأرض الباردة ابتلعت دفئها حين كان الغياب!!

ترقرقت عيناها بالدموع.. فقلت لها: هذه الحياة قطار، ووالداك وصلا إلى محطة غيابهما رحمهما الله.

صمتت قليلاً ونظرت إليها ثم قلت: حسنًا جاء دوري.. رفعت رأسها وابتسمت باكية.. وقالت: صحيح من أنت؟

قلت لها: أنا قيس من السعودية.. جئت هنا للسياحة..

وصل (النادل) وقد أحضر الشاي والكيك لساندرا.. ثم قالت: ما زلنا في الوقت المخصص للتعارف.. هل لي أن أسألك؟ قلت: تفضلي الأسئلة الصعبة تروق لي..!

قيس: هل أنت تدخن؟

أجبتها: أنا ولله الحمد لا أدخن السجائر.

ابتسمت.. ثم قالت: لِمَ أحضر لك النادل ولاعة السجائر وما علاقتها باللوحة الملفوفة التي معك..

(ساندرا): هذه اللوحة عبارة عن صورة لي رسمها أحد الفنانين على رصيف الكودام قبيل الغروب..

ورصاصة من ولاعة السجائر كافية لقتل الصورة.. لحرق الصورة.. لترمد كل أجزائها..!

قيس: هل تسمح لي أن أرى الصورة؟

لك ذلك.. ساندرا.. لك ذلك

ثم فتحت الصورة لتغوص نظراتها في بحر التأمل.. أعادت الصورة.. ثم أخذت ولاعة السجائر ورمتها بعيدًا!

ثم قالت: قيس نحن أصدقاء.. ولدنا من رحم ليلة في برلين.. ليتك تجيبني.. لم تريد أن تحرق الصورة!؟

قلت لها: لأن الصورة لم تختلف عن الواقع الممل والمؤلم!

قيس: لا يمكن أن تكون صورنا وعيوننا التي يملؤها الحزن والألم خيولاً نسرجها للهروب من أنفسنا.

أنا وأنت لكل منا ألمه.. ربما نتفق بالعنوان ونختلف بالتفاصيل!

قيس: يا صديق هذا المساء أنا وأنت عنواننا الفقد.. والحنين الصعب.. أليس كذلك!؟

نظرت إلى ساندرا وقد فاضت من عينيها الدموع..

قلت لها: أعلم أن (برلين) بعد فقدك والديك باتت غابة موحشة.. قالت: صحيح حتى النهر لا يملأ لي كأساً واحدًة منه أرتوي!

صمتت ساندرا وصمت أنا والشمعة تراقص صمتنا!

وماذا عنك قيس؟

ليتك تبوح لي.. أتوق إلى السفر إلى طهر أعماقك، أريد أن ألف بالشاش الأبيض كل جرح نازف فيك..

أريد أن أطعم أحشاء حرمانك من قوارير الدواء لتشفى من ألمك.. أريد أن أصغي لحبيبتك التي تسكن بعيد أعماقك.. فربما أعاتب امرأة أحبتك ثم رحلت بعيداً عنك..

أرجوك قيس يا صديقي.. أرجوك يا أخي

أسمعني من قيثارة العمر معزوفة صمتك.. والألم الجميل الذي فيك!

قلت لها: آه يا سندرا من جراحي.. من رواية حب طويلة لا تروى.. رغم روعتها ونقائها وصدقها.. ورغم الأحلام الكبيرة التي لونت كل المشاهد فيها!

كنت أعتقد أن حب امرأة العمر (أقصوصة) ولكن للأسف كانت (رواية)..

تنتهي فيها الآمال وتستمر الآلام! آه يا صديقتي ما حيلتي وقد كانت التضحية التي قتلت الحب فلم يبقَ منه سوى (الحنين).. حتى الذكريات افترست نعيم غيبوبة النسيان!

صديقتي ساندرا ما حيلتي بألفة مجهدة من البكاء!؟ قالت ساندرا: يا صديقي إذن هو الفراق يا قيس!

نعم.. ساندرا.. الفراق الذي نتنفس فيه الشوق لتعود لنا أنفاسنا بانكسار!

إن فراق الأحياء يكون أحيانًا أشد قسوة من فراق الموت؛ لأن الممكن والمستحيل لا ينفصلان!

نظرت إلي ساندرا وابتسمت باكية حين رأت دمعة قد فرت من كبرياء عيني، أخرجت منديلا أحمر من حقيبة يدها البيضاء ثم اقتربت مني ومسحت دمعة الكبرياء!

عادت إلى الكرسي ثم قالت: قيس هذه الحياة قدرك أن تكون بطل مأساة تضحيتك ووفائك وحلمك.

لست أدري.. ربما حبيبتك في هذه الساعة نائمة في سرير كبير على شاطئها الجديد وأنت هنا تتوسط رصيف ضياعك!

قيس يا إلهي إنها الساعة الثانية صباحًا ونحن على بوابة الفجر..!!

أجل ساندرا نحن على بوابة الليل الأبيض.. لقد سعدت بك كثيرًا.. وأنا يا قيس كذلك رغم الشجون، ولكن للذكرى نريد أن نخلد هذه الليلة الرائعة.. أنا لدي فكرة لذلك هي باختصار يمكن أن نسميها (ثقافة المناديل) خذ منديلي الأحمر، اكتب لي ما تود أن تقوله لي وأعطني منديلك الأبيض لأكتب لك همسة يسعدني كثيرًا أن تقرأها وأن تعيد قراءتها في ليالي البعد عنك.. قال قيس: فكرة (ثقافة المناديل). أعجبتني كثيرا وأنا أتفق معك لأن الإنسان قد يصنع الذكريات.. وعلى ضوء الشمعة الصغيرة بدأ قيس وساندرا الكتابة على المناديل!

وبعد صمت طويل انتهى النقش على المناديل وأعاد كل منهما منديل الآخر إليه..

فتح قيس المنديل الأبيض ليقرأ ما كتبته ساندرا

((صديقي قيس.. حياتك لك.. رغم الألم والحرمان ورغم قسوة أيامك وكآبة ليلك.. ورغم الحنان الغائب عنك وحضور حنينك إليه.. فقد سعدت بقلبك رغم قلة شكواه..

تذكرني دائمًا كلما نظرت إلى صورتك ففي عينيك المرسومة أودعت بهما من شجني وألمي الكثير!

قيس: أخي وصديقي أنت!!

أريدك أن تعدني بألا تحرق الصورة لأنها جديرة بالحياة.. شكرا على الشاي والكيك وشكرًا على كل شيء).

التوقيع: (ساندرا)

ساندرا.. يا لروعة نزفك وعزفك، أعدك يا صديقتي بأنني لن أحرق الصورة. بعد ذلك فتحت ساندرا المنديل الأحمر لتقرأ ما كتب لها قيس.

(صديقتي ساندرا): تذكري دائمًا قيس.. وتذكري شمسا أشرقت بيننا في ليل برلين، كان بريق الحزن في عينيك جزءاً من أناقتك.. لقد الفتك كأني أعرفك منذ أمس بعيد!

عذرًا صديقتي.. إن أحزاني المتوحشة تسكن في قلب أليف.. سوف أذكرك دائمًا وأذكر ليلة ممطرة بالدموع.. اغتسلت بها قلوبنا كالأطفال.

ساندرا... قسماً بربي إنك إنسان.. التوقيع: قيس..).

نظر قيس إلى ساندرا، ونظرت إليه، وكان حزن اللحظة الأخيرة.. ثم قالت له ونوبة البكاء تكاد تخنقها: أعدك.. بأني لن أنساك يا قيس أتعلم بما أفكر..

بماذا يا عزيزتي ساندرا؟

.. قالت: أتخيل بأن الشاعر الكبير المتنبي قد وصل بهذه اللحظة إلى ألمانيا.. وإلى هذا المقهى ليجلس بيننا..!

ساندرا خيالك يعجبني، كيف؟

قالت: أشعر بأنه جاء ليردد بيتًا من الشعر يعجبني دائمًا إلا هذه اللحظة:

عشية يعدون عن النظر البكاء

وعن لذة التوديع خوف التفرق

يمسك قيس بيد ساندرا.. ويضعها على إناء الشمعة والضوء يرتعش.. ثم حمل الشمعة بيديهما.. وعلى أنفاس بكائهما (انطفأت شمعة في ليل برلين!!!)



ayamcan@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد