من آخر الأعمال الروائية العراقية التي قرأتها رواية (هواء قليل) التي أصدرتها دار الآداب اللبنانية هذا العام للروائي جنان جاسم حلاوي المقيم في السويد؛ علماً أن هذه ليست روايته الأولى فقد أصدرت له الدار نفسها قبلها ثلاث روايات هي: ليل البلاد، دروب وغبار، وأماكن حارة.
ومن جديد أعيد المعلومة التي أجدني أمامها بعد قراءتي لكل عمل روائي لكاتب عربي هي أننا أمام روايات سيرية لا يجد القارئ صعوبة في ملاحظة أن بطلها المحوري ما هو إلا الكاتب نفسه، لاحظت هذا أخيراً في رواية الكاتب التونسي المهاجر (أبوبكر العيادي) المعنونة (الرجل العاري) التي آمل أن أقدم قراءة لها، كما لاحظته بشكل واضح في رواية (هواء قليل) لجنان جاسم حلاوي إذ إنه في هذه الرواية يحكي حكايته منذ مغادرته العراق إلى أن استقر به المقام في السويد لاجئاً.
وذاكرة جنان جاسم حلاوي تبقى ذاكرة بصرية (نسبة إلى البصرة) مدينته ومسقط رأسه وحيث تقيم أسرته.
والحكاية التي تمحورت حولها الرواية هي معاناة شاب اضطر لمغادرة وطنه ولدوافع سياسية وكانت السويد من أكثر البلدان الأوروبية استيعاباً للاجئين العراقيين، لذا يسهب الروائي في الحديث عن حياة بطله (يونس) منذ وصوله وإقامته في أماكن ايواء لفترة من الوقت حيث يجد يونس نفسه محشوراً في غرفة واحدة مع آخرين لا يجمعهم به أي جامع عدا صفة لاجىء، ويتحدث عن المعاناة اليومية له مع هؤلاء ثم بعد ذلك حصوله على شقة صغيرة في مدينة بعيدة مناخها الثلجي نقيض مناخ البصرة التي جاء منها. ثم تحوله للعمل اليدوي الذي وجهوه نحوه وتنقله بين عدد من المهن الصغيرة التي لم يعد نفسه للقيام بها، أو أنه لم يكن مستعداً لها.
ويعني الروائي بالتفاصيل الصغيرة لحياة اللاجئين وعلاقتهم بالمواطنين الأصليين الذين كانوا يرفضونهم ويقابلونهم باستعلاء عنصري ليس أبسطه انهم يبصقون عندما يرون سحناتهم الدخيلة عليهم.
ويونس شأنه شأن كل اللاجئين المنتزعين من أوطانهم تبقى هذه الأوطان تعيش فيهم وكأنهم لم يغادروها وعندما بدأ حصار العراق أحس يونس وكأن الحصار حصاره هو لذا يبحث عن رقم هاتف شقيقته في البصرة وبعد حصوله عليه كان سؤاله الأول حول الطريقة التي يستطيع بها ايصال مبلغ مالي لهم؟
ويكشف لنا المؤلف من خلال بطله يونس عالم اللاجئين هؤلاء، علاقاتهم مع بعضهم، مع محيطهم الجديد، وبالتالي الكيفية التي بها يستطيعون تحويل الأموال، وبعضها طرق غير متوقعة لكون العراق محاصراً وبالتالي يمنع تحويل أي مبلغ له، وهنا نتذكر الدور الذي قام به العراقيون في بلاد النأي والنفي في سنوات الحصار وتفانيهم في ايصال المبالغ المالية إلى أسرهم وأصدقائهم التي كانت لها مساهمتها الفاعلة.
وعندما يتم احتلال العراق عام 2003م يصبح هاجس العودة للوطن ورؤية الأهل هاجسه اليومي حتى استطاع أن يسافر بجواز سفره السويدي باتجاه الكويت بالطائرة ومن هناك استأجر سيارة تاكسي لتقله إلى البصرة وكانت الرحلة بين الكويت والبصرة في طريق يعج بالسيارات العسكرية الأمريكية قادمة وذاهبة وكذلك طائرات الهليوكوبتر التي تدور في الأجواء وعصابات السلب والطرق غير الصالحة.
كانت الرحلة خطرة جداً ومغامرة موت، ومن حسن حظه أن سائق التاكسي الذي حمله كان ملماً بكل تفاصيل الطريق وتوقعاته ثم يصل إلى بيت أخته.
لكنه لم يستطيع المكوث في المنزل فشوقه الكبير لما في مدينته يدفعه للخروج فيتم اختطافه من قبل عصابة مسلحة، وعندما عرف الخاطفون إلمامه باللغة الانجليزية طلبوا منه أن يكون مترجماً لهم لمقايضة جندي بريطاني خطفوه بأموال طلبوها من قيادته.
هناك تفاصيل كثيرة خلاصتها أن الجنود الأمريكيين عثروا على جواز سفره في بيت خاطفيه بعد مداهمتهم له فما كان منهم إلا أن بحثوا عنه وأعادوا تسفيره إلى السويد باعتباره مواطناً أوروبياً سويدياً هم مسؤولون عن حمايته.
تقول الرواية: (لا يني الزمن يجرفه بعيداً عن رغباته وهدوء روحه لم يظهر ضعفاً فوضعه يخصه وحده، وعليه أن يتحمله لم يذعن لقدره لذا لم يكن قانعاً بحاضره أو راضياً بمصيره).
وهكذا انتهت الرواية وبنهايتها ينطلق السؤال الموجع للعراقيين الذين هاجروا من أجل أن يعودوا ذات يوم، ولكن قدرهم أنهم يهاجرون وحلم العودة يتبدد منهم، وهكذا يسلمهم المنفى إلى المنفى حتى وإن أوهمهم بحلم عودة، لكنه حلم قصير.
هذه الرواية كتبت أيضاً بنفس وطني بعيد عن أي زعيق سياسي، فالمحنة كانت أكبر من العراقيين، بل وفوق تصورهم.
* * * *