حرص الإسلام على توثيق وتقوية أواصر القربى وجعل الإحسان إلى الأهل والأقارب من وسائل التقرب إليه سبحانه، وقد أثنى على الواصلين أرحامهم بقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} (سورة الرعد 21).
|
وبالمقابل في آية أخرى توعد الله القاطعين بالوعيد الشديد قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} (سورة محمد 22-23).
|
وحياتنا الراهنة مع ما فيها من مغريات وملهيات لكأنها تنادي بالبعد والقطيعة، إلا من رحم الله، وحتى نرتقي بذواتنا ولا نصاب بالقصور العاطفي والاجتماعي، ويتمكن هذا الشعور في أنفسنا ويتسلل إلى ضمائرنا ويصبح في تصعيد مستمر، مما يؤدي إلى عدم الفشل في علاقاتنا مع الآخرين، علينا توطين أنفسنا وترويضها على الحب والتسامح مع الجميع وبشكل خاص مع الأهل والأقارب.
|
أدبنا العربي الأصيل زاخر بالحكم والنصائح الشعرية والنثرية والأمثال الشعبية التي تدعو للتلطف مع الأقارب ومقابلة الإساءة منهم بالإحسان إليهم، حتى لا يستطيل الطرف الأقوى - الذي حباه الله المقدرة على اللين والتسامح والتجاوز عن الطرف الآخر - إذ يظن بفظاظته وصده أنه الأقوى وما ذلك إلا لغرور الشيطان له والعياذ بالله، وقد يأتي باللين والحكمة والتجاوز, ما لم يأت بالشدة والرهبة.
|
ويقال: (ثلث الحكمة فطنة وثلثاها تغافل)
|
|
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة |
يجدها ولا يسلم له الدهر صاحبه |
|
إذا كنت في كل الأمور معاتباً |
صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه |
ما أجمل قول الشاعر معن بن أوس إذ يصف معاناته مع أحد أقاربه حيث يحاول استلال الحقد والضغينة من قلبه بطريقة اللين والتسامح والتجاوز فيقول:
|
وذي رحم قلمت أظفار ضغنه |
بحلمى عنه وهو ليس له حلم |
صبرت على ما كان بيني وبينه |
وما يستوي حرب الأقارب والسلم |
ويشتم عرضي في مغيبي جاهدا |
وليس له عندي هوان ولا شتم |
ما أجملها من صفات، وما أروعه من حلم! ومن يحاول مع نفسه محاولة جادة لإصلاحها لا بد أن يصل إلى نتيجة، يقول صلى الله عليه وسلم: (الحلم بالتحلم، والصبر بالتصبر) وقس على ذلك باقي الصفات.
|
قال صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة)..
|
في الأبيات التالية يوضح الشاعر معن بن أوس فظاظة قريبه وتجهمه عليه، وكيف أنه يحاول رغمه، ويتمنى زوال النعمة عنه.
|
|
إذا سمته وصل القرابة سامني |
قطيعتها، تلك السفاهة والإثم |
ويسعى إذا أبني لهدم مصالحي |
وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم |
يود لو أني معدم ذو خصاصة |
وأكره جهدي أن يخالطه العدم |
نعوذ بالله أن نصل لهذا المستوى من السفاهة والإثم، وأن نكون معول هدم.
|
يواصل ابن أوس ليطربنا بطريقته التي تبعها مع قريبه لمعالجة ما به من قطيعة وضغن فيقول:
|
فما زلت في ليني له وتعطفي |
عليه كما تحنو على الولد الأم |
وخفضي له مني الجناح تألفا |
لتدنيه مني القرابة والرحم |
وصبري على أشياء منه تريبني |
وكظمي على غيظي وقد ينفع الكظم |
قد نفع والله الكظم، وأزال القطيعة والضغن، ويعد ذلك من أعظم الدروس في علم النفوس، وعلاجا تعجز عنه العيادات النفسية بكوادرها الطبية، إذ استطاع استلال المرض وعالجه بطريقة الصبر العجيبة وبالحلم، وقد فعل ما فعل ليستل عاهة الضغن وكان له ما أراد، حيث يقول:
|
لأستل منه الضغن حتى سللته |
وقد كان ذا ضغن يضيق به الحلم |
وأبرأت غل الصدر منه توسعا |
بحلمي كما يشفى بالأدوية الكلم |
فأطفأت نار الحرب بيني وبينه |
فأصبح بعد الحرب وهو لنا سلم |
ومن جميل ما قيل في إطفاء نار الحقد المستعرة بين بعض الأقارب قول المقنع الكندي:
|
وإن الذي بيني وبين بني أبي |
وبين بني عمّي لمختلف جدّا |
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم |
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا |
وإن ضيّعوا غيبي حفظت غيوبهم |
وإن هم هووا غيّي هويت لهم رشدا |
وإن زجروا طيرا بنحس يمرّ بي |
زجرت لهم طيراً يمرّ بهم سعدا |
ولا أحمل الحقد القديم عليهم |
وليس كبير القوم من يحمل الحقدا |
لهم جلّ مالي إن تتابع لي غنىً |
وإن قلّ مالي لم أكلفهم رفدا |
أكرم به من هدي يقضي على الأحقاد والضغائن. والله إنه لأدب جدير أن يُقرأ ويُحفظ ويُطبق، حتى ننعم بالصفاء والنقاء في علاقاتنا الاجتماعية، ونحظى بالسعادة في الدنيا بعلاقات ووشائج ظلالها وارفة، وننعم بالحياة الآخرة، بالرضى والمغفرة الوافرة.
|
وأدبنا القديم والحديث زاخر بمثل تلك النماذج الرائعة من الشيم والعادات، ومن أراد الاستزادة فما عليه إلا أن يلج أبواب المكتبات، ويقرأ، بل يرتع بين أجمل الأشعار والعبر والعظات.
|
|
للشاعر الأديب أبي الفتح البستي:
|
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم |
فطالما استعبد الإنسان إحسانُ |
|