تؤسس أدبيات الشريعة في مكونات بنية الوعي المنفعل بمؤدياتها محورية تلمس آفاق الوسطية والتلبس بموجباتها وتجسيد دواعيها على نحو مشخص على خرائط الواقع المتعين. محتويات البنية الداخلية للتشريع أصلت لمبلورات ارتقاء الحس الوسطي ورحابة فضاءاته..
..والتمركز في وسط الدائرة الوسطية التي بالطبع يمثّلها طرفان, ووسطٌ, هو المعنِي في مفردات الشريعة الغراء وهو المعنَى الذي تستهدف أدبياتها تعميق محاوره والانضواء تحت لوائه وتأصيل الانضباط بمعاييره. المسلك الوسطي يحفظ التوازن العام للشخصية ويضفي عليها نسقاً من الاعتدال الذي عندما تجري الصيرورة صوبه فإنه يبعث ضرباً من اليقظة المنهجية تنأى بالمرء عن النزوع صوب الأطراف المتطرفة - إن ذات اليمين أو الشمال - وتمنحه حصانة ضد الأدواء الدوية المنهكة التي تفرزها مغادرة المركز الوسطي الذي يوفر لمن ينتمي إلى إطاره القدرة على الاستمرار بفعل تناغمه مع الأفق الفطري فهو ليس شيئاً يضعه الإنسان انبعاثاً من رغبات ذاتية أو جرياً خلف حظوظ شخصية وإنما هو أمر تمت صياغته من قبل تعاليم الدين ومقاصده العامة.
إن المسلك الدغمائي بكافة تمظهراته الصانعة للانحطاط وبمتباين مفرداته المفرزة لمتتاليات التخلف والضاربة للتوازنات التربوية والاجتماعية والمُضْعفة للمسحة الوسطية كل ذلك ليس إلا نتاجاً للقفز على الوسطية والتطاول على خطوطها العريضة والقفز على معالمها الهيكلية.
إن التجافي عن المنظومة الوسطية هو الذي طالما أصاب الأمة في مقتل وآل إلى انقسام بالغ السوء بين تنويعاتها وليس ذلك الزخم الحضوري للمسارات الاحترابية وللخطابات المتسربلة باللغة الدموية والمتكئة على الآفاق الحدية التي تمضحلت لديها الخيارات, إلا مُسبَّباً مباشراً عن مباشرة اجتراح بتّ خطوط التواصل مع النقطة الوسط التي يفترض التمحور حول قيمها الضابطة للاتجاه والمرَشّدة للمسيرة.
إن النأي عن الوسطية والتمنهج بما يناقض لوازمها يبدو أنه يمثّل عنصراً من عناصر التراث الحضاري للإنسانية بوجه كلي وهو قاسم مشترك لا يكاد يتوارى إلا سرعان ما تأخذ نذره بالتشكل. إن إشاعة مفاهيم التوازن وبث دلالات الاعتدال وتوسيع أطر التسامح وتحريض البنية الذهنية العامة على مقاومة نزعات التطرف والتصدي لصور الانشقاق على الأسس الجوهرية لمكونات المحددات الأولية للماهية الوسطية التي نحاول عقلها والقبض على تقنياتها, كل ذلك شأن في منتهى المحورية، وكلما تقدمنا خطوات على هذا الصعيد كانت الفرص مواتية لإعادة الوزن الاعتباري لخط الوسط ومن ثم الحد من الانسياق خلف التوجهات الدغمائية المنحى, الضيقة المساحة, والتي هي في حالة من التجدد الدائم والتمدد الاطرادي والانفتاح على الإفراط أو الجنوح صوب التفريط وكلاهما يُفقدان الفرد الشفافية نحو المعادلات الحضارية, فالغالي والجافي يقتسمان جريرة التأسيس لبنية شعورية لا تجد حرجاً في التجديف التقويضي على نحو يفضي نحو استدبار المنطق الوسطي والتيه بعيداً عن مقتضيات متطلباته.
إنه ليس بالوسع مغادرة تلك القراءة من غير الإيماءة إلى أن ثمة توجهان يتجاوزان منطقية الوسط إبان تناولهما لمنهجية الغلو المفارقة للوسطية, فثمة توجه يقحم ذاته في مجال لا يحسن الخوض فيه فهو يهرف بما لا يعرف ويتناول وعلى وجه التفصيل ما لا تسعفه خبراته المعرفية المحدودة وتكوينه الثقافي المتهالك بتناوله, فيحكم بالغلو على جملة واسعة من التجليات السلوكية المعتدلة, إنه يحكم على نحو مفارق للصوابية مغاير لشرطها المنهجي, وثمة توجه آخر على الضفة المقابلة ينطلق في أحكامه من سوء طوية تتغيا بلورة التداعيات اللا منطقية فهو يطلق النعوت غير القابلة للبرهنة ويحيل التهم - المتمنعة على التعليل - بالغلو ويوزعها على كل من باشر التلبس بمسلك إسلامي أصيل، فالطائفة الأولى تعاني من الجهل الحاجب لصفاء الحقيقة والثانية تعاني من تشوّه ملامح الغايات المضمرة وكلاهما ينبض بالغلو وينضح بالشنآن لبواعث تحسير شيوعه, ويتقاسمان جريرة الجناية في حق الوسطية والمساهمة في الاعوجاج عن جادتها السالكة وبالتالي عرقلة الصيرورة الارتقائية في معارج الوسطية.
Abdalla_2015@hotmail.com