قبل ثلاثين عاماً ونيف، نَظَّم (مكتب رعاية الشباب بحائل) ندوة عن (حاتم الطائي) وكان أن تناولت بالبحث تلك الشخصية بوصفه شاعراً تتنازعه كما (عنترة) مناهج النقد القديم والحديث..
..وهي دراسات كادت تحيد به عن مدرج الحقيقة، واليوم ينظم (نادي القصيم) ندوة موسعة عن (عنترة بن شداد) وكلا العملين نظرا إلى المواطنة، وإلى أحقية الشخصية بالبحث، على أنّ السمات والممارسات تختلف من شخصية لأخرى، فإذا كانت الفروسية سمة (ابن شداد) فإنّ الكرم سمة (الطائي) ولهذا جاء بحثي الذي طبع في كتاب تحت عنوان: (حاتم الطائي بين أصالة الشعر وأسطورة الكرم)، ولقد ظنّ البعض بي الظنون حين تصوّروا أنني أنكر الكرم، وأثبت الشاعرية، وهذا غير مراد، والكتاب لا يشي بشيء من ذلك، فشاعرية (حاتم الطائي) لها وعليها، وما من أحد زاد فيها أو عليها أو نقص، ولكنهم أوغلوا في العبث بسمة الكرم الثابتة ل(حاتم) ولأهل الشمال، وهي سمة معروفة ومجمع عليها، متى كانت في حدود المقبول والمعقول والمبالغة التي بلغت ذروة الأسطرة مسّت شخصيات كثيرة، وجنت على تاريخها ومواهبها، وحوَّلت بعض الشخصيات الحقيقية إلى شخصيات أسطورية بحيث سيقت حكايات خرافية يستحيل وقوعها، ولا حتى من باب المعجزات التي خصّ بها أولو العزم من الرسل، و(حاتم الطائي) لم يعد وحده الذي امتدت إليه الأيدي العابثة، فظاهرة الأسطرة شائعة في التاريخ والأدب، بل امتدت إلى علم التفسير، وما الإسرائيليات التي ملئت بها كتب التفسير إلاّ من هذا النوع، الأمر الذي حدا بطائفة من العلماء المتقدمين والمتأخرين من أمثال (ابن تيمية) و(البقاعي) و(محمد حسين الذهبي) و(محمد أبو شهبة) و(رمزي نعناعة) وآخرين إلى تناول هذه الظاهرة بالبسط والإيجاز كما استخلصها في موسوعة (محمد أحمد عيسى)، وكانت لي إلمامة نشرت قبل عشرين عاماً في مجلة (رابطة العالم الإسلامي) تعقبها (أبو شهبة) رحمه الله بِعِدَّة مقالات، وحين لا يسلم تفسير القرآن الكريم من الأساطير، فإنّ ما سواه أحْرى بأن يفيض بهذا النوع، وجاءت دراسات المتأخرين لتنقية كتب التفسير من هذا العبث الذي اتخذه المستشرقون سبيلاً لتزييف النص القرآني حين جعلوا التفسير نصاً رديفاً عوّلوا عليه في تقديم القرآن لذويهم، وذلك مكر مكروه لحاجة في نفوسهم الأمّارة بالسوء، ومثلما حادت طائفة من المفسرين فقد شطت طوائف أخرى من المؤرخين، فظلموا الخلفاء الراشدين، والأمويين والعباسيين بدوافع طائفية أو سياسية، أو رغبة في الإمتاع، كما فعلوا مع (هارون الرشيد) و(أبي نواس) وما بينهما من علاقة لم تتحقق تاريخاً.
ومجال الأدب أرحب من سواه، إذ لا حساب ولا عقاب، فكل كاتب أو ناقد أو مؤرخ يميل مع هواه حيث يميل، ولا يجد غضاضة من الإمعان في المبالغة.
والأسطورة بوصفها معين المبدعين الذي لا ينضب تحوّلت لتكون معيناً للمؤرخين الذين توسلوا بها للامتاع والمؤانسة، الأمر الذي حوّل الشخصيات الحقيقية إلى شخصيات أسطورية لا تصمد أمام التحقيق العلمي، ولقد أشار (العقاد) في عبقرياته إلى دواعي الأسطرة، وإن لم يحرر هذه المسائل بالقدر الكافي.
وشخصية (عنترة بن شداد) تنازعتها عدّة طوائف ولربما يكون القدح المعلّى لكتاب (السير الشعبية) وبخاصة أنّ في قصصه ما يضفي على تلك السيرة قيماً اجتماعية وأخلاقية، فَسَواده، ونَفْيه، وتعلقه ب(عبلة) وقدراته الشخصية المتمثلة بالشاعرية والفروسية أعطت المشهد حركة مستمرة، وأمدته بمفاجآت مثيرة أغْرت كتّاب السير والتاريخ، وحملتهم على الإيغال في الرمز والخرافة والأسطورة، وإذ أوغل في المبالغة في مناجاته لمحبوبته، وفي وصف بطولته فإنه لم يخرج عن المألوف في عهده، غير أنه فتح شهية القصّاص والمذكرين وكتّاب السير الشعبية.
والمتابع للتاريخ الأدبي والقبلي وكتب الأنساب والمناقب يجد في تلك المناحي اضطراباً يصل إلى حد الإحالة، ومع ما اجتاح شخصية عنترة من خرافات وأساطير ورموز إلا ّأنها تظل شخصية حقيقية، وشخصية شاعرة وشجاعة، غير أنّ شاعريته لا تملك الندية مع الأتراب من مبدعي المعلّقات وغيرهم من الشعراء، حتى لقد عدّه (ابن سلام) من (الطبقة السادسة) ومن شعراء الواحدة، وهم حسب مفهوم المحقق أصحاب المعلّقات، وليسوا كذلك في المفهوم الحديث، فشُعراء الواحدة من اشتهروا بقصيدة واحدة ولم يعرف لهم سواها، أو ما هو بمستواها ك(الشنفري) و(مالك بن الريب) و(ابن زريق) وآخرين تقصاهم (نعمان ماهر الكنعاني) في كتابه (شعراء الواحدة) ولم يكن من بينهم (عنترة بن شداد) على أنّ له مقطوعات نادرة جاء خمس منها في كتاب (منتهى الطلب من أشعار العرب) ل(ابن المبارك البغدادي)، وإذ يكون من هذه الطبقة المسبوقة بخمس طبقات فإنه يفوق شعراء الطبقات بالشجاعة والإقدام، وتلك الصفات الخَلقية والخُلقية حوّلته إلى شخصية أسطورية، والإشكالية ليست في تحديد المستوى الشعري، ولكنها في تحرير هذه الشخصية مما غمرها من النحل والخرافة، وتنازع الرمز والواقع والأسطورة يتطلّب جهوداً استثنائية للوصول إلى شاعريته الحقيقية، وشخصيته التاريخية، وحبه الجِبِلي وشجاعته المعقولة ومع الضبابية التي تكتنف شعره وشخصيته، فإنني لست ممتعضاً مما يثار حوله من شكوك قد تمتد إلى نفي ذاته وشعره، فلهذه الإثارات جذور تاريخية، التقطها (مرجليوث) وحبَّرها في كتابه (أصول الشعر العربي) الذي ترجمه (يحيى الجبوري) واتهم (طه حسين) بسرقته وإدراجه ضمن كتابه الضجة (في الشعر الجاهلي) و(مرجليوث) التقط الخيط مما وقف عليه من إشارات في كتاب (معجم الأدباء) لياقوت ومن بعض إشارات النقّاد الأقدمين، فمبدأ الانتحال قائم وهو من ظواهر النقد القديم والحديث، والدخول فيه يحول دون استكمال المراد وهو تحرير شخصية عنترة مما علق بها، وتحقق الأسطرة في ممارسات عنترة لا يمكن استجلاؤه إلاّ من خلال المنحول من شعره والمختلق من أخباره.
وإذ نسلم بوجود تاريخي حقيقي ل(عنترة) ول(عبلة) فإننا لا نمضي مع المبالغين بحيث نقبل كل ما قيل عن هذا الحب الذي أنتج هذا الكم الهائل من الشعر والأخبار. وهدف هذا البحث الإطلالة على التنازع وتقرير ما تطمئن إليه النفس ويخدمه التحقيق العلمي، فالشاعر الفارس أصبح نهباً للأسطورة والرمز، ولم يكن نصيب الواقع منه إلا اليسير، ولسنا نقصد الأسطرة في شعره، وإنما نقصد أسطرته هو من خلال شعره المنحول، على أن تكافؤ الفرص بين الظواهر وضع الباحث عن الحق في أمر مريج، ولأنّ الأدب والسياسة يشتركان فيما يسمّى ب(فن الممكن) فإنّ الأدباء، يستطيعون أن يقولوا ما يحلو لهم، ولا معقب لمبالغاتهم ما دامت في إطار الممكن، فهذا (الأصبهاني) في (أغانيه) يحرص على الإسناد وهو الأكذب، وما أحدٌ أخضع رواته للجرح والتعديل، فالأدب دون التاريخ وكلاهما دون الحديث النبوي، ف(البخاري) في صحيحه غيره في (الأدب المفرد) و(التاريخ الكبير)، ومن الخطأ الكبير استخدام مقاييس المحدِّثين في علم الأدب والتاريخ، ولأنّ عنترة من أغربة العرب فإنه يلتقي مع الشعراء السود في كثير من خصائصهم الشعرية والسلوكية، وتلك الخصائص التي أسهمت في انحراف الشعر الجاهلي إلى الذاتية استهوت الأدباء والنقّاد وعلماء النفس والاجتماع والتاريخ للغوص في أعماق النفس وتقصي النشأة الأولى للعرق الأسود في جزيرة العرب في الجاهلية والإسلام، فالبشرة السوداء وافدة على الجزيرة العربية، لممارسة الأعمال الشاقة المتمثلة بغرس النخيل وكسح السباخ، وهذا الصنف من الناس يوجد حيث تكون الأعمال الشاقة، واختلاطهم بالبدو الرحل جعل منهم رعاة إبل وخيل وسقي واحتطاب، وعلّمهم الفروسية والفرّ والكر، أما الشعر فموهبة لا يختص بها قوم دون قوم، والمؤكد أنه جيئ بهم مجلوبين عن طريق الاختطاف كما كان يفعل الأمريكيون مع الزنوج ولقد تكاثروا في الجزيرة العربية وتحوّلوا إلى أسر كريمة لهم ما لغيرهم، وظاهرة الرق في التاريخ الإنساني تكاد تنحصر فيهم، والذين كسبوا الحرية لأي سبب أو تخلّفوا في الديار المقدسة شكّلوا أقليات تمرّدت منها طوائف ناصبت البيض العداء، ونازعتهم السلطة، وما ظاهرة الزنوج وثورتهم الدامية إلا ناتج سوء المعاملة التي عاشوها، وهي معاملة لا يقرّها الإسلام ولا الأخوة الإنسانية، والتصدي لهذه المعاملة الجائرة نجم عنها قصص وحكايات أوغلت في الخرافة والأسطرة، وأمدّت القصاص والمؤرخين بفيض من الحكايات المسلية كما أنها أكسير السير الشعبية.
والحديث عن عنترة يستدعي عدّة قضايا، الشعر المنحول، والأساطير المختلفة، وتأثير السواد على الحياة الاجتماعية والسلوكية والاتجاهات الشعرية لدى الشعراء السود الذين اضطهدوا وطوردوا وتحوّل بعضهم إلى الصعلكة وما يكتنف حياتها من سلوكيات أمدّت الرواة بفيض من قصص المغامرات.