أنهت جمعية الناشرين السعوديين مؤتمرها الأول للناشرين العرب قبل أيام. وكم كان ساراً أن شرّفني المنظمون بالدعوة لرئاسة الجلسة الأولى للمؤتمر. ولم يكن مبعث سروري لشبق مني بالمؤتمرات، فقد أثقلت كواهلنا مقاعدها لعقود من الزمن، ولكن لأن مؤتمر الناشرين العرب قد جاء بخلطة جديدة، أخشى أن من بين المنظمين من لم يدركها، بكل حقائقها..
... إلا بعد أن انتهت جلسات المؤتمر، وراح نفر من رجاله يبحثون في الأرض ليواروا سوآت إخوانهم. فالمؤتمر مهم دون شكك من عدة جوانب، فقد كان فرصة نوعية لتبادل المعلومات والحوارات المتخصصة بين كبار المعنيين بعملية النشر في الوطن العربي. وهو مهم لمواجهة التحديات الكبرى التي تهدد واقع ومستقبل النشر المطبوع في المجتمع الإنساني المعاصر في ظل تطور وسائل الاتصال والمعلومات الإلكترونية من جانب، وفي ظل تقادم التنظيمات التي تحكم عملية النشر في الوطن العربي، وبقاء كثير من القيود الرسمية على النشر التقليدي للكتب، من جانب آخر، مما أتاح فرصا كبيرة للنشر الإلكتروني أن يحقق مكانة متقدمة لدى الجمهور بمختلف فئاته وتوجهاته. وإذا كانت الصحافة المطبوعة قد واجهت مشكلات مهنية جمة في عصر الإنترنت، فإن الكتاب المطبوع أسوأ حالا بالتأكيد. والمؤتمر من زاوية أخرى مهم للمؤلف لأنه يعطي للمؤلف (بصيص أمل) في أن أقطاب صنعته يجتمعون ليتدارسوا أفضل السبل لنقل مؤلفه للقارئ، وتحسين ما هو موجود من عقبات وتغييرها بالقدر الذي يمكن أن يقود إلى إيجاد تشريعات حديثة متطورة تستوعب متغيرات المرحلة على المستويات كافة. كما أن صناعة الثقافة ستفيد من هذا المؤتمر باعتبار أنه عربي الإطار جغرافيا وفكريا، مما يبعث الأمل في أن تكون الخلاصات التي توصل إليها المؤتمرون، وإن كانت ولادتها متعسرة جدا، ذات انعكاسات إيجابية على طبيعة المنتج الثقافي العربي ليتجاوز مراحل من التبعية للتقليدية والانحسار في نطاق المعروف والمعتاد، إلى آفاق من الإبداع العقلي والعاطفي في التعامل مع القضايا والموضوعات الكبرى التي تواجه صناعة الحياة في المجتمع الإنساني كافة وفي الوطن العربي بشكل خاص. فبصرف النظر عن النتائج التي خلص إليها المؤتمر، مما كان مثار جدل واسع بين المشاركين فيه، إلا أنني أعتقد أن ثمة مركبات مهمة لهذا المؤتمر جعلت منه مجالا رحبا لكثير من العوائد المفيدة لصناعة النشر، وإن كانت محفوفة ببعض العقبات والمشكلات التي كنا نتمنى لو أنها لم تحدث في مثل هذه المناسبة، التي جمعنا فيها من العرب من لم يكن يلزمنا جمعهم إن لم نكن على استعداد لتقبّل ما هو معروف سلفا من ولاءاتهم وبراءاتهم. إن أهم تلك المركبات أن المؤتمر قد كسر قواعد تقليدية متوارثة كانت هي العقبة الكؤود أمام الناشرين وعدد من المؤلفين، حيث تم تنظيم هذا المؤتمر من قبل الجمعية السعودية للناشرين، وهي جمعية تعمل تحت مظلة وزارة الثقافة والإعلام، وأشرفت (الوزارة) على كثير من فعاليات المؤتمر بمتابعة مباشرة من وكيل الوزارة للإعلام الداخلي، وهو المسؤول الذي تنظر إليه الوسائل المطبوعة كلها باعتباره (حارس البوابة) الرسمي، الذي يعمل على تطبيق أنظمة المطبوعات والنشر. أو أنه يمثل (بلغة عدد من الإعلاميين والمفكرين والمثقفين) أداة القمع الرسمي للممارسة الجماهيرية. أما الحاضرون المشاركون فهم من الناشرين والمثقفين المستقلين. وبذلك أظن أن المؤتمر قد منح هذا الجمع المثقف فرصة تاريخية للتلاقي ومناقشة أكثر الموضوعات إثارة للجدل في مجال النشر وتحت سقف وزارة الثقافة والإعلام. والمؤتمر بذلك، مؤشر قوي على دعم المملكة العربية السعودية ممثلة بقيادتها الحكيمة المتجسدة في رعاية خادم الحرمين الشريفين لهذا المؤتمر، وما تضمنته كلمته من معان سامية دعت للتأمل والحوار وفتح آفاق الإبداع أمام المثقفين والمؤلفين العرب، في دعوة صريحة تؤكد أننا أمام مرحلة تحدٍّ حقيقي.. وأنه يجب أن نعمل من أجل مراجعات متأنية لتطوير كافة تفاعلاتنا، وعلاقاتنا، وتنظيماتنا في مجال الفكر، والثقافة.
لكن المؤتمر (ومنذ لحظة انطلاقه، عندما اختار حريات النشر موضوعا للجلسة الأولى) كان يعلن استعداده لمواجهة التحديات (التقليدية) بين كل من (الرسميين) (وغيرهم) وبالذات عندما يكون الأمر ذا علاقة بالفكر والثقافة. فيمكن (بقراءة خاصة لمراقب خارجي) تلخيص أهم التحديات التي واجهت المؤتمر في اهتمامه بمناقشة قضايا الحريات في مجال النشر والتأليف، في حين أنه ينعقد تحت مظلة وزارة معنية بمراقبة المطبوعات والنشر. وأظن أن في هذه التركيبة تحديات حقيقية ليس للمؤتمرين وحسب ولكن أيضا للوزارة ولجميع الوزارات والجهات الرسمية العربية المعنية بهذا الأمر، من حيث ضرورة أن تسعى لاستيعاب المرحلة ومتغيراتها وأن تقبل الجلوس إلى طاولة واحدة للنقاش، ومحاولة تقريب وجهات النظر. وهذا ما سعت إليه الوزارة بمبادرة جريئة محمودة، وأعتقد أن المؤتمرين سيحملون إلى بلدانهم صورة حسنة عن هذه المبادرة التي تقلدتها وزارة الثقافة والإعلام، إن لم يكن قد خالط الأمر شيء مما هو غير ذلك، أثناء رحلة المؤتمر من مركز الملك فهد الثقافي إلى أحد فنادق الرياض بعد انتهاء جلساته، ثم إلى مرحلة (التسويف) في إعلان البيان الختامي للمؤتمر. إن موضوع (حرية النشر والتأليف)، قضية ذات شجون، فالحريات في الوطن العربي متباينة ومتغيرة حسب تغير الأحوال. ويمكن إيجاز القول بأن الأمر في السنوات المتأخرة أوسع وأشرح في مجالات معينة يتقدمها نقد المستقر من العادات والتقاليد ومجادلة الفكر بالفكر. في حين بدت الأمور أكثر حساسية في مجالات أخرى تتقدمها الأطر السياسية، والمصالح العربية الغربية المشتركة. ولقد كانت حريات النشر والتأليف بصورة عكسية تقريبا قبل الحادي عشر من سبتمبر. وبالتالي فإنه لا يمكن قراءة وفهم موضوع حريات النشر والتأليف في الوطن العربي دون استيعاب تلك المتغيرات الكبرى التي تحدث على ساحته. والمشكل الأهم في الموضوع، أن قراءة كل من (المؤسسة الرسمية) و (الناشرين العرب) لتلك المتغيرات الكبرى تختلف فيما بينها في كثير من مركباتها. ولذلك لم يكن يسيراً على الإطلاق، أن تدعو الجمعية لهذا المؤتمر بهذه التركيبات المتناقضة، ولم يكن سهلا عليها، بالتأكيد، أن تدير دفة النقاش والحوار في المؤتمر، ثم هاهي تنوء بحمل ما خلص إليه المؤتمر من نتائج وأفكار. ولكن بشرى (الحدث) أن وزارة الثقافة والإعلام كانت تبارك تلك الخطوة، وأنها حظيت برعاية كريمة من لدن خادم الحرمين الشريفين، وفي هذين المركّبين الأكثر أهمية رسالة محترفة للجمعية أن تدرك، بشكل أفضل، في المرات القادمة كيف يمكن أن تفيد من الفرص التاريخية التي تمنح لها.
alhumoodmail@yahoo.com