جلس صاحب المنصب الرفيع وخريج جامعة هارفارد على كرسي المريض في عيادة الطبيب يستمع إلى نتائج فحوصاته، وإلى أسباب الجلطة التي أصابته في القلب مؤخراً، وجاء على رأس القائمة ارتفاع الكولسترول وضغط الدم وعادة التدخين، ثم أسهب في شرح مراحل العلاج، وأن عليه في هذه المرحلة أن يتوقف عن التدخين، وأن يلتزم بنظام غذائي ودوائي منتظم لمنع حدوث جلطة قادمة، وما أن انتهى الطبيب المعالج من شرحه لخطة العلاج، تناول المريض الوصفة الطبية بعد أن وضع البشت على كتفيه، ثم شكر الطبيب على اهتمامه لكنه فاجأه باستدراك غير متوقع: (يا دكتور أظن إن ما فيني إلا عين)..!!
وفي عيادة أخرى أنهى طبيب فحوصاته لمريضة مصابة بداء الصرع، كان مرافقها خالاً لها، يعمل باحثا علميا في تخصص علمي نادر، شرح الطبيب المعالج لهما نتائج الفحوصات وأخبرهما أن الفتاة مصابة بداء الصرع، وعليها أن تتناول الأدوية المضادة للنوبات من أجل أن تتوقف تشنجاتها اليومية، لكن الباحث العلمي المرافق للفتاة رفض تشخيص داء الصرع، ورفض أن تتناول قريبته الأدوية المضادة للصرع، وقال بالحرف الواحد: إنها مصابة بمس جني، وأن ما يحصل لها من تشنجات سببه الجني الساكن بين أضلع الفتاة الصغيرة، وأن الأدوية قد تهيج سلوك الجني، ويحدث ما لا تحمد عقباه من التشنجات المتكررة والتصرفات الغريبة، لكن الطبيب المعالج لم يقبل قرار الخال والباحث العلمي، وطلب حضور والدها، والذي بعد جهد فكري أيد الطبيب المعالج في قراره، وفي أن تأخذ ابنته الدواء بانتظام، وبالفعل تمت السيطرة تماماً على النوبات، وعاشت بعد ذلك حياة هادئة..!!
يشكل هذان الحدثان أحد أوجه الانفصام في شخصية الإنسان المسلم في المجتمع، والذي يستطيع من خلال قدرة ذاتية غير عادية أن يعيش في محيطه الأكاديمي من خلال عقل متصل بالعلم التجريبي الذي يعتمد على البحث المستمر عن معجزات وسنن هذا الكون التي لا تتبدل، وبرغم من اتصاله الشديد بالعلم الحديث وارتباطه المعرفي والمهني بحقيقة هذا العلم، إلا أنه في لحظة خروجه من المعمل يكاد ينفصل تماماً عن هذا العقل، ومن محيطه الأكاديمي وفصول العلم الحديث ونتائجه المبهرة، وينسى مختلف الحقائق التي تعلمها في الجامعة الغربية أو في كلية الطب وفي مراحل تدريبه العالي في معامل الأبحاث الدقيقة، ليعيش في المجتمع من خلال عقل تقليدي آخر لا يتفق مع العلم الحديث في تفسير تلك الظواهر، ويمانع التطور والإبداع الإنساني..
الإشكالية الحقيقية هي في كيفية كسر تلك البوابة التي تفصل بين العلم الحديث وبين ما يؤمن به الإنسان من اجتهادات فقهية مناهضة للعلم، والتي تم ربط الدين والإيمان بها برباط عقدي، فقد أدى هذا الربط التعسفي إلى جعل القضية في غاية الصعوبة أمام مستقبل العلم التجريبي في هذا المجتمع، والذي بالرغم من التقدم الإنساني في مجال البحوث وفي اكتشاف الأسباب المتعلقة بداء الصرع على وجه التحديد، إلا أنه لازال يرفض أن يُرجع هذه الظاهرة المرضية إلى أسباب عضوية، ولازال يربطها بتفسيرات غيبية غير مؤهلة للدخول في معادلات الإثبات والنفي في معامل الأبحاث، بالرغم من أن التجربة الإنسانية ثرية بالأبحاث المتعلقة بهذا الداء، وأثبتت من مختلف المراكز العلمية في العالم أن أسبابه عضوية ويمكن الوصول إليها بمختلف الوسائل، بل يمكن أحياناً الشفاء منه عبر الجراحة..
الأزمة الحالية لا يمكن فصلها عن فرض تعليم بعض المفاهيم والتفسيرات الخاطئة التي غرسها بعض الفقهاء في أمهات الكتب، على وحي من الله عز وجل، وإنها القول الفصل في تفسير بعض الظواهر المرضية والطبيعية، وما يزيد من عقبات ردم هذه الهوة تعليمها على أنها جزء لا يتجزأ من العقيدة، وهو ما يجعل الطالب في حالة انفصام دائمة بين ما يتعلمه من مدرس الفقه والعقيدة، وبين ما يتعلمه من مدرس العلوم في فصل آخر..
ما نحتاجه في مثل هذه المرحلة هو فحص ما يتم تعليمه على أنه الحقيقة الدامغة بينما هو في حقيقة الأمر عامل سلبي ضد أعمال ملكة التفكير في حقل التجارب العلمية، ويحتاج كثير من المقولات التي تم ربطها بما يُطلق عليه بمنهج الطب النبوي إلى مزيد من المراجعة والتدقيق، كذلك تحتاج بعض اجتهادات الفقهاء في تفسير بعض الظواهر المرضية والطبيعية ثم إلباسها ثوب الحقيقة المطلقة إلى مراجعة دقيقة، وسيجعل استمرار هذا التضاد والتنافر من التصادم بين الدين والعلم أمراً حتمياً لا مفر منه في مستقبل الأيام.