Al Jazirah NewsPaper Monday  19/10/2009 G Issue 13535
الأثنين 30 شوال 1430   العدد  13535

لاءات السلطة الثلاث
د.عبدالله الصالح العثيمين

 

في تاريخ القضية الفلسطينية، وصراع أمتنا مع الدولة الصهيونية، كانت هناك ثلاث لاءات مشهورة ظلت في ضمائر المخلصين من هذه الأمة مقدَّرة مشكورة، وهي تلك اللاءات التي قرَّرها الزعماء العرب في مؤتمر الخرطوم عام 1967م:

لا مفاوضات مع تلك الدولة المغتصبة، ولا اعتراف بشرعية وجودها على الأرض العربية، ولا سلام معها. وظل التمسُّك بتلك اللاءات المقدَّرة المشكورة من الثوابت لدى أقطاب أولئك الزعماء، وبانتقالهم إلى رحمة الله أُصيبت اللاءات، واحدة بعد أخرى، بهشاشة العظام إلى أن وافاها الأجل المحتوم، ودفن ما تقرر في مؤتمر الخرطوم.

وكانت ملامح بداية تلك الهشاشة في العظام قد بدت في أعقاب حرب عام 1973م مباشرة. وكنت قد شعرت بذلك؛ فعبرت عنه في قصيدة عنوانها (الأساطير)، كتبتها ذلك العام، وورد فيها:

أمس قالوا:

لا سلام

مع أعداء العروبة

وأنا اليوم أغنِّي

وازمِّر

لاقتراحات السلام

كانت حرب 1973م، التي أثبت فيها المقاتل العربي عظمته، شجاعة وتضحية، بعد ست سنوات من نكسة حرب 1967م. وبعد ست سنوات أخرى من تلك النكسة نجح الكيان الصهيوني بجهود أمريكية في تحقيق انتصار عظيم لهم، وهو خروج مصر العظيمة بكل ما لها من ثقل من ميدان المواجهة معهم باتفاقية كامب ديفيد عام 1979م. وكان من ثمار تلك الاتفاقية للزعيم المصري الراحل أنور السادات أن نال جائزة نوبل للسلام بالاشتراك مع بيجن الإرهابي الصهيوني الذي يشهد تاريخه الإجرامي كما شهد هو نفسه في كتابه الثورة، على ارتكابه جرائم حرب فظيعة.

وإذا كان لغياب أقطاب الزعماء العرب، الذين قرروا ما قرروا في مؤتمر الخرطوم، عن الساحة أثره السلبي الفادح في مسيرة القضية الفلسطينية، فإن لخرق السفينة العربية المتمثل في اتفاقية كامب ديفيد ومقتضاها أثره الخطير على تلك المسيرة؛ ذلك أن ضعف العرب بدون مصر لا يحتاج إلى دليل، ولم تتحرر فلسطين من الاحتلال الفرنجي، وتسلم من الخطر التتري، إلا عندما انطلق التحرير من أرض الكنانة، وجوبه الخطر انطلاقاً منها.

لذلك لم يكن غريباً، ولا غير متوقع، أن استفحل داء هشاشة العظام في جسد أمتنا. وسرعان ما انفرطت حبات المسبحة بجهود أمريكية متقنة. وإذا كان تحييد مصر، باتفاقية كامب ديفيد، في ميدان المواجهة مع الصهاينة نصراً عظيماً لهم فإن كيانهم قد حقق له أعوانه في الإدارة الأمريكية نصراً آخر؛ وذلك بإقناعهم الزعماء العرب بمؤتمر مدريد ليتفاوضوا مع ذلك الكيان ممثلاً بوفد يرأسه شامير الذي هو صنو بيجن في ارتكاب جرائم الحرب ضد الفلسطينيين، وكان انعقاد ذلك المؤتمر على أساس الأرض مقابل السلام، دون ذكر لمسألة عودة اللاجئين.

وماذا عن لاءات السلطة الثلاث بعد الإشارة المختصرة إلى ما سبق من تحوُّل جذري في الموقف العربي ممثلاً في الزعماء العرب؟

التصريحات التي يبديها عدد من أركان السلطة الفلسطينية تنص بوضوح على أنه: لا تنازل عن وجوب انسحاب إسرائيل - دون ذكر أنها عدو بطبيعة الحال - من الأراضي المحتلة عام 1967م بما فيها القدس، ولا تنازل عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وهو حق أقرته الأمم المتحدة، ولا اعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية. هذه اللاءات الثلاث هي أقل ما يمكن أن يطالب به أركان السلطة الفلسطينية، وبخاصة بعد أن حُذف من ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية ما حُذف، وبعد أن آلت أمور المنطقة بعامة وأمور الفلسطينيين بخاصة إلى ما آلت إليه.

لقد دلَّ تاريخ أمتنا على أن لاءات مؤتمر الخرطوم الثلاث المشهورة لم يُتنازل عنها عندما كان أقطاب زعماء ذلك المؤتمر على قيد الحياة. فهل يثبت أركان السلطة الفلسطينية أنهم لن يتنازلوا عما يصرحون به الآن من اللاءات الثلاث الجديدة؟

للمتفائلين حقهم في التفاؤل بثبات الموقف، ولغير المتفائلين حقهم، أيضاً، في عدم التفاؤل بذلك الثبات. ولمن أراد أن يحكم على صحة التفاؤل وعدم صحته أن يتأمل في مسيرة تلك السلطة، بدءاً بما حدث من وراء ظهر الوفد الفلسطيني في مؤتمر مدريد، وانتهاء بما يحدث الآن على أرض الواقع من موقف تجاه أي عنصر مقاوم للاحتلال الصهيوني.

قبل نصف قرن تقريباً كنت من المتفائلين عندما قلت:

ما للدموع الحمر هامعة

حرَّى على خديك تنسجم؟

كفكف دموعك في محاجرها

فالفجر لن تغتاله الظُّلَم

والقلب لا ينسب إلى دمه

يأس يكبِّله ولا سأم

على أن المتأمل فيما هو جار ويجري على أرض الواقع يرى ما يأتي:

بالنسبة إلى اللاء الأولى، وهي لا تنازل عن وجوب انسحاب الصهاينة المحتلين من الأراضي المحتلة عام 1967م بما فيها القدس، للمرء أن يسأل: هل بقي في الضفة الغربية إلا أوصال مقطعة يزداد فيها يومياً انتشار أورام المستعمرات الاستيطانية؟

وهل هناك مَنْ يجهل أن الصهاينة الذين ضموا القدس رسمياً ماضون في إكمال تهويدها، وربما في هدم المسجد الأقصى عن قريب؟ هل هناك من يجهل أن زعماء صهاينة، ابتداءً من هرتزل، ومروراً ببن جوريون، وانتهاء بالمتربعين الآن على كراسي السلطة الصهيونية، قد أعلنوا أن ذلك التهويد هدف لا تنازل عنه، وأن معاول الهدم تخترق أساسات ذلك المسجد؟

أما بالنسبة للاء الثانية، وهي لا تنازل عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، فالمعروف أن زعماء الصهاينة - وهم الجانب الأقوى المتفرعن - يرفضون ذلك رفضاً تاماً، وأن قادة أمريكا يدعمونهم دعماً غير محدود في هذا الأمر. وما دامت أمريكا تدعمهم فإن العالم كله غير مهم في نظر أولئك الزعماء، كما صرح بذلك ذات مرة مجرم الحرب موشي دايان، وكما هو واضح من مضمون خطاب الرئيس أوباما في القاهرة الذي انخدع به المنخدعون اللاهثون وراء السراب، بل إن من المرجح أن من أهداف الإصرار على الاعتراف بيهودية الدولة التمهيد لإجلاء الفلسطينيين العرب الباقين في فلسطين المحتلة عام 1948م.

وأما اللاء الثالثة، وهي لا اعتراف بيهودية الدولة، فإن زعماء الصهاينة - في ضوء ما لمسوه وعرفوه من توالي تنازلات القيادات العربية، فلسطينية وغير فلسطينية - لن يتنازلوا عما ألحوا عليه في هذا الشأن. ومن الواضح من مضمون خطاب الرئيس أوباما، الذي نال مؤخراً جائزة نوبل للسلام، أن أمريكا تدعم أولئك الزعماء الصهاينة في ذلك. وتصريحات ممثلي هذه الدولة التي برهنت على صداقتها الحميمة للعرب في العراق، وتبرهن على تلك الصداقة للمسلمين في أفغانستان، في مناسبات عديدة واضحة كل الوضوح..

لقد عرف المواطن العربي كيف دفنت لاءات مؤتمر الخرطوم، فهل سيعرف كيف تكفن لاءات السلطة الثلاث عاجلاً أو آجلاً؟ إن إلى الله المصير.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد