Al Jazirah NewsPaper Monday  19/10/2009 G Issue 13535
الأثنين 30 شوال 1430   العدد  13535
أوهام قد تقود العالم.. إنفلونزا الخنازير نموذجاً
د. عبدالرحمن الحبيب

 

هل تصدق ما تراه عن ذلك الجهاز الليزري في المطارات الذي يراقب جموع المسافرين الذين يمرون لكي يكشف أولئك المصابين بإنفلونزا الخنازير؟ إذن، كيف تفسر المشكلة التي تواجه أغلب الحكومات في التكاليف الباهظة لفحص المشتبه بهم بالإصابة بهذا المرض، إذا كان الأمر

بهذه البساطة التي يُظهرها الجهاز؟

وإذا كان هذا الجهاز أقرب لقصص الخيال العلمي، فهل نصدق الحكايات التي تتفرع من رواية هذا المرض.. قصص خرافية عن علاجه، وعن مؤامرة صناعة الفيروس في أحد المختبرات، وعن تأثيرات اللقاح المروعة؟ كيف نفهم أن مرضاً كالإنفلونزا العادية وهو إنفلونزا الخنازير تهتز له الحكومات والمنظمات الدولية.. وبسببه تُقاطع الدول، وتُقطع الرحلات عن بعضها، وتؤجل الدراسة في أغلب الدول، وتعلن حالة الطوارئ في بعضها الآخر، وتُلغى مؤتمرات وأنشطة عديدة؟ فما الذي طرأ على طرق تفكيرنا وسلوكنا بحيث ننساق بشدة لهذه القصص التي تمزج بين الحقيقة والخيال؟

المفكر الأمريكي كيفن كيلي من الممجدين لثقافة الإنترنت التجارية والثقافة الشعبوية، لديه رؤية مستقبلية في مسألة التغير الاجتماعي والثقافي المصاحب للتطور التكنولوجي الهائل وثورة المعلومات والاتصالات.. فالتكنولوجيا ليس لديها تمييز بين الحقيقي والتمثيلي، وبناء عليه فإنه لم يعد هناك تمييز واضح بين الواقع والصورة.. وسيحصل خلال العشرين السنة القادمة تهجين بين الخيالي والوثائقي.. سنرى مزيداً من عروض واقعية تصبح سيناريوهات، وسيناريوهات تخرج عن السيطرة، ووثائق تستخدم ممثلين، وممثلون مُختَرَعون آلياً، وأخبار ممسرحة، ومسرحيات خيالية تصبح أخباراً واقعية.

حسناً، لقد قررت التكنولوجيا إسقاط الحدود بين الحقيقي والزائف، تلك حتمية تاريخية بالنسبة لكيلي، وكثير من المفكرين أمثاله الذين يناصرون الثقافة التجارية الشعبوية، لذا تقول لنا مجموعة بو (Pew)، وهي مشروع الإنترنت والحياة الأمريكية، في تقريرها عام 2006: بدلاً من النحيب ضد التلاعب بالحقيقة استمتعوا بالترفيه التكنولوجي!

وفي مثالنا مع إنفلونزا الخنازير فإن قنوات الإعلام وجدتها مادة دسمة للإثارة وجلب الجمهور أمام الشاشات والحصول على مزيدٍ من الإعلانات التجارية، بغض النظر عن المصداقية ما دام أن الحدود سقطت بين الحقيقي والوهمي.. لتنطلق روايات مفزعة عما يمكن أن يؤول إليه مصير البشرية بسبب هذا المرض.. وكل مصدر إخباري يريد أن يكون له السبق في كشف آخر قصص الرعب.. إنهم على عجلة من أمرهم متلهفون لكسب الأرباح وبيع برامجهم..

وحتى عندما يصرح خبير صحي مستنداً إلى الدراسات والإحصاءات، أمام إحدى الفضائيات فإن مشهده يثير الشفقة، حين يقول إنه لا داعي للهلع مع وجوب أخذ الاحتياطات الصحية العامة، ليرد عليه المذيع: أليس هو شبيه الوباء الذي أفنى الملايين قبل تسعين عاماً؟ أليس مرضاً جديداً؟ ألم تقولوا لنا إنه سريع العدوى بشكل مخيف؟ هل تريد أن تقول للناس ان يعيشوا حياتهم الطبيعية وكأن شيئاً لم يكن؟ وهنا يتراجع الخبير من ثقل مسؤولية صحة البشر وغوغائية الأخبار، فينساق معها.. والمُشاهد يحدق أمام الشاشة مرعوباً!

إنها سيطرة ماكينة الإعلام الشعبوي.. فمن ذا الذي يمكنه أن يجازف ويتحدى رغبة الجماهير التي أصبحت بقلقها تشارك في صناعة الخبر بالإنترنت وبرسائل الجوال بأوهام لا حصر لها؟ حتى الحكومات انساقت مع الاندفاع الجماهيري لأنها لا تستطيع إغضاب شعوبها المتهيجة بحمى الإعلام التجاري والشعبوي..

تلك ليست مؤامرة من الشركات العملاقة المنتجة للأدوية بل هي طبيعة الإعلام التجاري الشعبوي.. التضخيم والإثارة اللتان تقودان أصابعنا نحو المحطات الفضائية الأكثر مبالغة والأسرع في تغطية آخر الأخبار المثيرة، خصوصاً خلال حالات الهلع، حيث يهرع الناس نحو المسؤولين في الصحة والسياسة الذين هم بدورهم منساقون للموجة الإعلامية الجماهيرية، فينقاد الجميع إلى تعليماتهم مهما كانت مكلّفة وغير مبنية على حقائق، فلا شيء أهم من الصحة.. وكلما كان الخبر شديد المبالغة انقاد الناس للتعليمات أكثر، متنازلين عن عقولهم وأموالهم..

مروجو الثقافة الشعبوية التجارية مثل ديفيد بروك صاحب الكتاب الأكثر مبيعاً عام 2000، يرون أن فصل الإنسان المعاصر عن الثقافة التجارية مستحيل، لأنه يعني فصله عن النشاط الأساسي للحياة العصرية. وعلى الطريق نفسه يمضي مالكوم جلادول في كتابة المشهور (نقطة الحافَّة): (The Tipping Point) طارحاً أفكاره في الجوانب النفسية والاجتماعية والثقافية الجديدة ويحصرها كلها تقريباً في المسألة التسويقية.. فحسب جلادول نحن في كل لحظة وفي كل أنشطتنا الحياتية نمارس عملية تسويق بضاعة.. وأفضل الناس نجاحاً هم الذين يعرفون كيف يُنتجون العاطفة (البضاعة) الأكثر تأثيراً وإثارة.. الأكثر إرضاءً للجماهير (الزبائن). وهنا مع إنفلونزا الخنازير لا يوجد أفضل من إثارة غريزة الخوف من المرض والقصص المتفرعة عنها والأخبار التي يصنعها الناس في الإنترنت، فتتلقف الفضائيات أكثرها جاذبية، لتتحول الأوهام إلى حقائق..

شكراً لأفكار جلادول فقد وضع ثلاثة عوامل تسويقية لجذب الجمهور إلى بضاعتك أيا كانت (سياسية، تجارية، صحية..)، وهي: عامل الشكل المؤثر.. أي شيء يحبه المستهلكون؛ ثم عامل اللصق بالذاكرة.. أي شيء يلتصق بذاكرة المستهلك؛ وأخيراً عامل قوة السياق.. أي شيء يناسب السياق المكاني والزماني والملابسات المحيطة بمشاعر المستهلكين.. فالمهم هو جذب الجمهور وليس المصداقية أو الجدارة.. ولعل بارك أوباما أشهر من طبق هذه العوامل التسويقية بغض النظر عن كفاءته المستحقة الذي هو جدير بها..

ها هو ذا أوباما يتصدر الأخبار لعدة أيام حين التقط بكفه ذباباً يحوم حوله، ضغط عليه، ألقاه على الأرض ثم أبعده بقدمه.. ها هو ذا يلوح بكفِّه للجماهير بابتسامة أليفة.. يمشي برشاقة، يلبس بأناقة، يخطب ببلاغة، ويرضي مئات الملايين حول العالم.. ثم يحصل على جائزة نوبل للسلام قبل مضي تسعة أشهر على توليه الرئاسة، ولم نشهد بعد تنفيذ أي من وعوده الانتخابية، لكننا شاهدنا صوره الجذابة في كل مكان تتفوق على الواقع المر..

لقد سبق أن حذر المفكر الأمريكي برنارد روزنبرج عام 1957 من توسع الثقافة الشعبية لأنها تمهد الطريق للاستبداد عبر توحيدها الأذواق ووضعها لمعايير شعبية تفرض التبسيط الساذج والفهم المباشر. وعلى ذات الطريق، يحذرنا اليوم الناقد الأمريكي لي سيجل من هذه المرحلة الشعبوية التجارية، لأنه بسببها لم يعد هناك معايير نقدية تقيِّم الأعمال سوى شعبيتها. وما يحدد الشعبية هو النجاح في جذب الجماهير عبر المبالغة والإثارة..

ها نحن ذا، متسمرين أمام الشاشة التلفزيونية أو الإنترنتية ينمو الوهم فينا تدريجياً يوماً بعد يوم، دون أن نشعر.. ويُختصر العالم ويُعقلن ويتنظم في ملايين الوحدات الإعلامية التجارية، ولكن العالم الخارجي الواقعي يظل غير ذلك تماماً. أما مروجو الثقافة التجارية فلا يرون بأساً في تزييف الواقع، لأنه حتمي ولا يمكن تفاديه، وبالتالي ينبغي الاستفادة منه تجارياً والتمتع به، على منطق ما لا تستطيع مقاومته تمتع به!



alhebib@ yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد