انفجر كثير من التداعيات والتطورات اللاحقة للأزمة المالية في جميع أصقاع الأرض، غير أن من أبرز ما ارتفعت درجة غليانه ضمن دوائر الاقتصاديين والماليين المعاصرين؛ قضية التشكيك أو بمعنى أدق انحسار الثقة في العمل بالعديد من النظريات الاقتصادية والمالية التي أحكمت سيطرتها لأكثر من 30 عاما مضت على آليات العمل المالية والاستثمارية، اكتسحت تلك الموجات المدمرة من عدم الرغبة في الاعتماد على تلك النظريات (الفاشلة) اليوم، وهي التي كانت ولا تزال يتم تعليمها وتلقينها لطلاب الاقتصاد والمالية في العالم المعاصر، بدءاً من عقر هارفارد إلى آخر جامعة في بنجلاديش!
لقد تهاوت نظريات الحرية في الاقتصادات والأسواق كأوراق الخريف منذ خريف 2008م، تناثرت أشلاء أعتق النظريات حول كفاءة الأسواق المالية التي طالما راهنت على أن قوة ارتفاع كفاءة السوق تُستمد من انعكاس المعلومات الكاملة على أسعار الأصول، بل لقد وصل بها الحال أن أصبحتْ تقرأ عبارات الاستهزاء والسخرية عبر أعمدة ومقالات كبار منظريها حول العالم! وأذهب حيث تشاء في النظريات المنظمة لعمل أسواق الصرف والمعادن والسلع؛ ستجدها تتهاوى تباعاً كأنها أحجار الدومينو الشهيرة، غير أن علامات الدهشة والذهول تراها قد حلّت على الوجوه عوضاً عن ابتسامة السعادة والمتعة وأنت تشاهد تساقط أحجار تلك اللعبة في كرنفالية تسعى لوضع قدمها على صفحات أرقام جينس العالمية.
مجرد مسكنات
دروس مؤلمة جداً حملتها إلى العالم المعاصر حقيبة (الأزمة المالية العالمية)، كلفت عشرات التريليونات من الدولارات، سقط على أثرها الكثير من القلاع والعروش إن دولاً أردت أم شركات أو بنوكا، وسقط وسيسقط الآلاف من منظومة أو إفرازات الرأسمالية المعاصرة! ومن المؤكد لدينا في الوقت الراهن أن العالم قد تعلّم أموراً عديدة على أثر تلك الأزمة، ومن المؤكد أيضاً أنه لا يزال يجهل الكثير حتى يتعلمه على خط الزمن الراهن ومستقبلاً.
الفشل الذي أحاط بالمؤسسات والهيئات الدولية وفي مقدمتها كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، لم يلغه أبداً مبادرات مجموعة العشرين، التي هي أيضاً كما يبدو في طريقها إلى الفشل حتى تاريخه! فكل ما قامت به حتى الآن لم يتعدَّ كونه مجرد مسكنات للآلام التي ضربت مفاصل الاقتصادات والأسواق، إذ لم تقدّم حتى هذه الساعة الإجابة عن السؤالين المحوريين:
الأول - متى؟ وكيف ستوقف الدعم التريليوني الذي ضخته في شرايين الاقتصادات والأسواق؟
السؤال الثاني: ما الأنظمة والسياسات البديلة التي تقترحها عوضاً عن القائم اليوم الذي تسبب في انفجار الأزمة المالية العالمية الراهنة؟
فما سطّره اجتماعا الربيع والخريف الماضيان لم يتعدَّ كونه رزمة من التوصيات والإجراءات المضخمة بوعود إنفاق عشرات التريليونات، والتشديد على زيادة فعالية الرقابة والإشراف على ذات الأنظمة والسياسات التي قادت العالم بأسره إلى الهاوية، ولعل في عجز تلك المجموعة عن التصدّي للسياسات والإجراءات الحمائية التي تورطتْ فيها أغلب الاقتصادات المتقدمة إشارة واضحة المعالم لما أرمي إليه هنا، هذا عدا أنه دليل قاطع على وفاة منظمة التجارة العالمية إكلينيكياً أمام أهم أسباب تأسيسها.
بالطبع يوجد الكثير من الأسئلة الأخرى المحرجة على الطاولة التي لا تزال عقول صناع السياسات المالية والاقتصادية العالمية عاجزة عن الإجابة عنها، كالسؤال المؤرق التالي: كيف ستتمكن الدول ذات المديونيات الهائلة (الولايات المتحدة الأمريكية، دول منطقة اليورو ...) من سداد (جبال) أدوات الدين التي أغرقت بها العالم، خاصةً تلك التي أمطرت بها سماء الأسواق طوال الاثنا عشر شهرا الماضية؟! وكيف ستتعامل بعض الاقتصادات الدائنة (ومن ضمنها اقتصادات دول منطقة الخليج) أمام معضلة أن (الدول المدينة) خاصةً الولايات المتحدة الأمريكية قامت عمداً بضخ ما يعادل حجم تلك الديون سيولةً في الأسواق (تضاعف حجم القاعدة النقدية الأمريكية مرتين خلال عمر الأزمة فقط)؟! هل هو السواد الحالك هنا نشاهده على وجه مستقبل الاقتصاد العالمي، أم ماذا؟!
الإجابة تحتمل في طياتها الإيجاب والنفي على حد سواء! فالسواد الحالك هو المحطة الأخيرة التي سيصل إليها من سيفتقر إلى الوسائل والإجراءات المضادة، والنجاة من عنق الزجاجة (للبطل) الذي سيسخر ما لديه من وسائل وإمكانات لأجل مصلحته. إننا أمام صورة ملأى بالتناقضات الصارخة والمؤرقة للجميع دون استثناء، فهل ستتوقف وتيرة الحياة المعاصرة في العالم بمختلف تفرعاتها المعقدة؟! حتماً أن الإجابة بالنفي!
لقد اعتادت التجربة الإنسانية بكل ما انبثق عنها من نشاطات وعبر علاقتها بوقائع الحياة وتحدياتها، أقول اعتادت أن تتعايش وفق تلك الصيغة مع التحديات مهما بلغ حجمها، واعتادت أيضاً على اقتناص الفرص إن وجدتْ، واستغلالها أيما استغلال! وهنا مربط الفرس في السنوات القادمة، وهنا أيضاً الهدف الرئيس من كتابة هذا التقرير.
الانتقائية بين اقتصادات
تتهاوى وأخرى تتصاعد
هذا هو عنوان الحقبة القادمة التي يتراوح عمرها بين خمس إلى عشر سنوات، الفترة التي قد تكون كافية لينضج العالم على الصعيد الاقتصادي والمالي، إضافة إلى التأثيرات الممتدة لذلك الجانب باتجاه بقية نواحي النشاطات الإنسانية الأخرى فكرياً وسياسياً واجتماعياً الخ...، والفترة التي قد يستغرقها لابتكار مناهج ونظريات متجددة تؤهله لتنظيم متغيرات عالمه، ومواجهة تحدياته الجسيمة فيما بعد الأزمة. في خضم هذا العراك شديد الوطيس؛ سنشهد تغيرات سبق أن أشرت اليها في تقارير نشرتها هنا على صفحات الجزيرة الموقرة؛ حول (أن المحيط الاقتصادي العام للعالم شهد ويشهد وسيشهد مزيداً من التغيرات العميقة الجذور، ارتكازاً على رؤية المفكر الاقتصادي محمد العريان في كتابه (عندما تتصادم الأسواق) حينما ركّز على ثلاثة عوامل رئيسة عنونت الحراك العالمي الراهن اقتصادياً ومالياً، هي:
العامل الأول - الاصطفاف الجديد للقوى والمؤثرات الاقتصادية الكونية، بما في ذلك التمريرات التدريجية إلى مجموعة من الدول التي كانت أقل شأناً في الماضي.
العامل الثاني - التراكم العلني للثروة المالية الذي تحرزه مجموعة من الدول، ومنها دول اعتادت أن تكون في الماضي في عداد الدول المقترضة والمدينة، أكثر مما عرف عنها أنها دول دائنة ومستثمرة.
العامل الثالث - توالد الوسائط النقدية الجديدة التي كان لها شأن عميق في تغيير مسارب الدخول إلى كثير من الأسواق، اعتبرتها بعض المؤسسات المالية مصدراً مهماً من مصادر نقل المجازفات وتوزيعها بين الآخرين، فيما اعتبرتها أخرى وسائط لا تتعدّى كونها (قنابل موقوتة) أشبه ما تكون بأسلحة نقدية للدمار الشامل.
التفاعل الداخلي لهذه العوامل الثلاثة أنتج - وسوف يستمر في إنتاج - تغيراتٍ عميقة في الدوافع الكامنة وراء العلاقات الكونية الرئيسة الاقتصادية منها والمالية، فالأسواق تتصادم حالما تكتسب مجموعة جديدة من اللاعبين، أو الأدوات، أو المنتجات، أو المؤسسات دوراً منهجياً مهماً لم يكن لها من قبل، ولا سيما عندما تقوم بهذا الدور بطريقة مغايرة لما كانت تفعله المجموعة السابقة، ولا عجب إن صعب على المشاركين في السوق أن يتكيفوا بسرعة وبطريقة مؤثرة.
أما هنا فسيتم التركيز على التوقعات المرتبطة باقتصادنا الوطني عموماً، والسوق المالية المحلية تحديداً، التي آمل أن تلقى اهتماماً يدعو للتفكير والتأمل وتوسيع دائرة النقاش حولها أكثر من تصديقها أو تكذيبها، وذلك بهدف إثراء الحوار والبحث الجاد وصولاً إلى ما يخدم ويساند مصالح اقتصادنا الوطني بالدرجة الأولى. في سبيل ذلك ولأجل إيضاح الفكرة للقارئ الكريم؛ وضعتُ مصفوفة تضم الخطوط الرئيسة العامّة المتبادلة التأثير ممثلة في الاقتصاد الكلي والسوق المالية المحليين، إضافة إلى تطورات الاقتصادات والأسواق العالمية التي تتدخل أيضاً في تحديد اتجاهات المتغيرات الاقتصادية والمالية المحلية.
إن فهم وتحديد تلك العلاقات بصورةٍ دقيقة ورقمية، والغوص فيها أعمق من هذا النموذج المبسط، سيتيح المجال دون شك أمام صناع السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية والاستثمارية والتجارية لدينا للتعامل مع التطورات المتسارعة القادمة بمستوى أكثر كفاءة وديناميكية أسرع. يجب على الجهات القائمة لدينا على الجوانب الاقتصادية والمالية عموماً أن تكون قد تعلّمت جيداً معنى وثمن تفويت الفرص التي قد لا تعود، وأن تكون قد استوعبت جيداً معنى وثمن عدم مواجهة التحديات والمعوقات في بداية أمرها! كلا الخطأين يؤديان إلى النتيجة ذاتها (الفشل). الفشل المؤدي إلى خسارة عوائد فرص مجدية على الاقتصاد الوطني والتنمية الشاملة، كانت يوماً بين أيدينا ولا ينفع بعد فواتها مهما بُذل من الجهد والمال أن نستعيدها! الفشل المؤدي إلى زيادة خسائر وتكاليف وأعباء عدم مواجهة التحديات في بداية نشوئها، فما كان تكلفة معالجته في البدء تُقدّر بالآلاف أصبح اليوم يريد ابتلاع المزيد من المليارات والسنوات والجهود!
لماذا يجب علينا أن نبدأ التفكير والتنفيذ منذ اللحظة في هذا المجال؟! لقد أدّت الأزمة المالية العالمية إلى إحداث زلزالٍ تاريخي هائل في أرضية الاقتصاد العالمي، نتج وسينتج عنه تحولات لاحقة ستكون أكثر غرابة بالنسبة إلى جميع سكان العالم، ونحن جزءٌ من هذا العالم سيطالنا بعضاً منها. لعل من أبرز ما كشفت عنه نتائج الأزمة المالية العالمية أن الحلول الكلاسيكية المعتادة لم ولن تنفع في مواجهة هذه التحولات العميقة، وها نحن نرى بأم العين معاقل الرأسمالية تتخلى بكامل الرضا عن أساسيات نظمها الاقتصادية والمالية، لتعتمد في جزء كبير منه على ما كانت تحاربه بالأمس بكامل عتادها! يجب أن نتنبه إلى ما يجري الآن على الساحة الاقتصادية العالمية من تحولاتٍ هائلة، حيث تزايد الاهتمام مؤخراً بالاقتصادات الناشئة والمتحولة وبأسواقها المالية، كونها الأكثر جدارة خلال العشرين عاماً القادمة على النمو السريع، والمساهمة من ثم في تعزيز معدلات استقرار الاقتصاد العالمي، ومدّه بالنمو وتحقيق القيمة المضافة الحقيقية للناتج الإجمالي العالمي. لقد أصبحت هدفاً صريحاً للاستثمارات العابرة حول العالم، وبصفة الاقتصاد السعودي واحداً من أهم تلك الاقتصادات بجانب الصين والهند وروسيا والبرازيل وأوروبا الشرقية؛ فلا شك أنه سيكون على رأس القائمة! هل نحن على استعداد لهذه التطورات العملاقة القادمة؟! ولنتذكر ماذا تمتلك السعودية مقارنة بما لا تمتلكه بقية تلك الاقتصادات المتحفزة للنمو، حينها سنعلم أي تطوراتٍ قادمة على وجه العالم الاقتصادي والمالي.
صعود الأسواق الناشئة
ها هي صناديق التقاعد العالمية التي تمثل أرصدتها نحو 30 في المائة الناتج المحلي الإجمالي العالمي، تزيد من حصة الأسواق الناشئة (السوق السعودية من ضمنها) حتى وصلت اليوم إلى نحو 5 في المائة من محفظتها الاستثمارية، وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي. وستزيد لديك صدمة المفاجأة إن اطلعت على البيانات التي تصدرها شركة EPFR العالمية (شركة توافر تدفقات الأموال، وبيانات توزيع الأصول للمؤسسات المالية في جميع أنحاء العالم، تهتم بمتابعة ورصد تحركات صناديق الاستثمار المؤسسة على الصعيد العالمي، التي تتجاوز إجمالي أصولها سقف 10 تريليونات دولار أمريكي)، حيث أوضحت أن الأعوام العشرة الأخيرة شهدت صعوداً ملفتاً للأسواق الناشئة على سطح الاستثمار العالمي، حيث ارتفعت الأموال المدارة في الأسواق الناشئة على مستوى العالم من نحو 64 مليار دولار في مطلع 1999م إلى نحو 563 مليار دولار في الوقت الراهن، أي أنها نمت خلال تلك السنوات القليلة الماضية بنحو 780 في المائة. وتشكل نسبة تلك الأموال المدارة في الأسواق الناشئة في الوقت الراهن نحو 11 في المائة من إجمالي الثروات العابرة القابلة للاستثمار في الأسواق التي تقدر اليوم بنحو 5 تريليونات دولار أمريكي، الملفت هنا أن هذه النسبة لم تكن تتجاوز 3 في المائة بنهاية 2006م، ووفقاً للتوقعات الراهنة فالنسبة مرشحة للزيادة مستقبلاً، بعضها إلى ذهب إلى احتمالية أن تصل إلى 15 في المائة خلال عام قادم، وقد تزيد إلى 21-25 في المائة من الإجمالي المتنامي لتلك الثروات خلال الخمس سنوات القليلة القادمة. الآن؛ هل اقتصادنا الوطني وسوقنا المالية على استعدادٍ للتعامل مع تلك التطورات المتسارعة القادمة؟! يكفي الإشارة إلى أن القيمة الرأسمالية المحررة للتداول من سوقنا المالية لا تتجاوز قيمتها اليوم أكثر من 133 مليار دولار أمريكي! ما العمل أمام احتمالية أن تستأثر سوقنا باهتمام 5 في المائة من تلك الثروات الموجهة إلى الأسواق الناشئة، التي قد تتراوح بين 60 إلى 90 مليار دولار أمريكي وقد تزيد، أي ما يشكل نسبته 45- 68 في المائة من إجمالي القيمة الرأسمالية المحررة من السوق!! لا شك أن هذا سيدفع بمؤشر السوق المالية إلى الارتفاع الشاهق ستتجاوز دون شك حتى قمة فبراير 2006م خلال العامين القادمة!
أصدقكم القول ان ما تضمنه الجدول أعلاه المتعلق بمتطلبات الاستفادة من الفرص المتاحة، ومواجهة التحديات القائمة، يتطلب جهداً كبيراً وتنسيقاً أوسع بين الأجهزة القائمة على الجوانب الاقتصادية والمالية لدينا، بل لكأنه يتطلب إنشاء ما يشبه (غرفة العمليات)! التي يقتضي نجاحها القيام على متابعة وتنسيق ومراقبة وتوجيه وتحديد كل آليات العمل المستمر في هذا الاتجاه. أعتقد أن (غرفة العمليات) هذه موجودة الآن ممثلة في المجلس الاقتصادي الأعلى، فهو الجهاز المؤهل في الوقت الراهن للقيام بوضع تلك المتطلبات على سطح التنفيذ والبدء فوراً في تفعيلها، إذ إنه يضم جميع الأجهزة الاقتصادية والمالية والنقدية والتجارية والاستثمارية والعمل، ومن ثم فإن مهام تنفيذ ومعالجة تلك المتطلبات ستكون أكثر فعالية، وأكثر نجاحاً تحت مظلة هذا المجلس الأعلى للاقتصاد الوطني. ما أود التأكيد عليه في نهاية هذا التقرير؛ أن الأفكار هنا لا تتعدّى كونها مفاتيح مبدئية لمناقشة وبحث الرؤى الاستراتيجية اللازم دراستها من قبل كل الأطراف، ومحاولة الوصول إلى حلول وسياسات فاعلة تساعدنا على اقتناص الفرص المتاحة والمتوقعة مستقبلاً التي قد تذهب ولا تعود، كما تساعدنا على النجاح في مواجهة التحديات القديمة والقائمة والمتوقعة مستقبلاً قبل أن تتفاقم علينا فنعجز عن القضاء عليها وتحييد آثارها المدمرة.
عبدالحميد العمري
عضو جمعية الاقتصاد السعودية