Al Jazirah NewsPaper Saturday  17/10/2009 G Issue 13533
السبت 28 شوال 1430   العدد  13533
إدارة المستقبل
م. عمر الايداء

 

ملايين السنين مرت على البشر هادئة رتيبة، كان الإنسان فيها مكتفيا بما عرف، وكان غالب البشر مقتنعين بما هم عليه.. مؤمنين بأن الدنيا ستسير وفق هذا النسق الهادئ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

هكذا سارت السنين في الماضي، بطيئة قليلة التغيير، ولم تكن الديمومة هي الأصل في التفكير فحسب، بل كان التغيير استثناء، فالمستقبل لم يكن يعني الكثير في الماضي، فهو لم يكن مجهولا نوعا ما على اعتبار أن (الروتين) الذي تعود على البشر في الماضي كان ينبئهم بما ستؤول إليه أحوالهم في السنين القادمة، وبالتالي لم يكن هناك ما يستدعي الاهتمام بالمستقبل ويحفزهم على محاولة اكتشافه والاستعداد له، ولكن حين دخلنا أواخر القرن العشرين تغيرت الأمور، وأصبحت الرتابة والديمومة من أخبار الماضي، إذ دهم البشرية طوفان التغيرات السريعة المتلاحقة، وأصبح من الصعب اتخاذ قرارات هذا الزمن ومواكبته والتفكير بمستقبله بطرق الماضي، لقد أصبح زمنا لا يبقى فيه إلا الأقوياء الذين يجيدون التعامل معه ومواكبته من خلال امتلاك المهارات والأدوات المناسبة.

وكمحاولة للتكيف ومواكبة ذلك العصر، ظهر علم (إدارة المستقبل) الذي ظهر سابقا لكن ظهوره هذه المرة كان قوياً بعد أن فرضته الظروف الجديدة على ساحة الحياة، وزاد الاهتمام به على نطاق واسع، وتم تطوير مناهجه وأدواته، وأصبح من الضروريات والحتميات التي لا يمكن الاستغناء عنه في هذا العصر، بعكس ما كان ينظر إليه في السابق على أنه أحد مجالات الترفيه والتسلية.

ومن المؤسف أن نرى كثيراً من الدول والشركات الغربية تسابق الزمن في التطور والتقدم اعتماداً منها على الدراسات المستقبلية التي أسهمت بشكل كبير في عمليات التخطيط لديها وتشكيل قراراتها، بينما نرى هذا الاهتمام وهذه الدراسات تكاد تكون معدومة في الوطن العربي على وجه العموم، والسعودي على وجه الخصوص.

إن إدارة المستقبل، وبعيدا عن التعريفات الموجودة في الأدبيات، ما هي إلا طريقة للتحايل على ذلك العصر، نسبق الزمن بوقت كاف ونفترض بعض الأحداث والوقائع المحتمل وقوعها، وندرس القرارات الواجب اتخاذها في حالة وقوع تلك الأحداث، ولكن تبقى نسبة وقوع ذلك السيناريو المتوقع قليلة جداً، ولزيادة نسبة التوقع والاحتمالية، نقوم بزيادة عدد السيناريوهات والتصورات المحتملة بحيث يكون لدينا عدة سيناريوهات محتملة، سيناريو متفائل وسيناريو متشائم، وبينهما عدة سيناريوهات، وثم ننتظر الحاضر للوصول إلى المستقبل المتوقع واتخاذ القرارات المقررة مسبقاً مع بعض التعديلات وفق نسبة وقع سيناريو معين.

ولم يكتف علماء المستقبل بذلك، بل تخلوا عن انتظار الحاضر للوصول إلى المستقبل، وذهبوا إلى الحاضر بعد وضع السيناريوهات المحتملة ودراستها وتحديد السيناريو المرغوب، وتحديد القرارات الواجب اتخاذها في الحاضر لتشكيل المستقبل المرغوب فيه، وقاموا بتوجيه الحاضر وقيادته من خلال تنفيذ تلك القرارات، وتقييم نتائجها بشكل مستمر، وإجراء التعديلات المناسبة عليها لضمان تحقيق نتائجها وتداعياتها حسب المستقبل المرغوب. لأن قرارات اليوم وتصرفات الحاضر سوف توثر في المستقبل، بل وتحدد صورته بصورة أو بأخرى، إذن يمكن القول بان علم إدارة المستقبل هو ذلك الحقل الذي يتعامل مع المجهول ومحاولة توقع وبناء أحداث المستقبل لا باعتباره شيئا مقررا ومفروضا علينا، ولكن باعتباره شيئا يجب بناؤه وتنفيذه، فهي طريقة تساعدنا على التحكم في المستقبل، وجعله أفضل مما لو جلسنا في انتظار وقوعه.

إن الواقع الحالي يحتم على الشركات والقيادات الإدارية الاهتمام بهذا الجانب كأحد مناهج العمل الناجح والأداء الفعال إذا ما رغبوا في التقدم والمنافسة، وامتلاك الخارطة والبوصلة الواضحة في وسط تلك البيئة، والابتعاد عن سياسة ردود الأفعال نتيجة إحداث المستقبل، وبين من يسارع نحو المستقبل مستخدماً أدوات وآليات ومناهج المستقبل. فالشركات القوية هي تلك الشركات التي تدرك ما يحيط بها من فرص وتهديدات، وتسعى لصنع مستقبلها أو حتى المشاركة في صناعته، وامتلاك الخريطة الواضحة في عالم شديد التغير من خلال وضع التصورات والسيناريوهات المستقبلية المحتملة، ووضع القرارات المناسبة لكل تصور وسيناريو مستقبلي محتمل بشكل يكفل تحقيق النتائج المرجوة، بعكس الشركات الضعيفة، الغافلة عما يحيط بها، تاركة مستقبلها للمصادفة ولأطماع الآخرين والمنافسين لتشكيله وفق خططهم وغاياتهم لتحقيق نتائجهم.

إن معظم النجاحات والإنجازات التي حققتها الكثير من الشركات صنعها قياديون مستقبليون سعوا إلى تحسين واقعهم وإصلاح سلبياتهم من خلال المشاركة في صنع وبناء مستقبل شركاتهم، وسنستعرض مستقبلاً، بعد عرض أدوات ومناهج إدارة المستقبل، بعض تلك التجارب والنجاحات لتلك الشركات وقياداتها، وكيف استطاعت بنظرة وإدارة مستقبلية بناء مستقبلها، ومواجهة التحديات والمنافسة وتحقيق الريادة.



alaidda@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد