أعرف شخصاً يعمل في إدارة التوجيه في احد القطاعات التعليمية منذ فترة طويلة، وكان مثال الجد والإخلاص والمثابرة، وتقدير المسؤولية.
وكان زملاؤه يعرفون ذلك عنه جيداً، ولما قرب وقت تقاعده عن العمل تابعه أحد أقرانه المقربين إليه ليرى كيف تَسِيْر وتيرةُ عمله في آخر أيامه، فتابعه في آخر شهر فلم يَرَ شيئاً تَغَيَّرَ من همته، ونشاطه، وتَدَفُّعِه، وحرصه على عمله.
فقال: لعل ذلك النشاط يخبو في آخر أسبوع، فلم ير تغيراً في الأسبوع الأخير، فتابعه في آخر يوم، وقال: لا بد أنه سيخرج قبل نهاية الدوام، أو أنه سيسند بعضَ أعمالِه إلى أحد زملائه، فلم يكن شيء من ذلك، بل إنه لم يخرج من عمله إلا بعد آخر ثانية من وقت العمل؛ حيث خرج مرفوع الرأس، موفور الكرامة، سعيداً بأمانته، مستبشراً بصفاء قلبه، وطيب مطعمه، فصار بذلك قدوة لزملائه، وكل من سمع بأمره.
وأعرف رجلاً تولى عمادة إحدى الكليات في جامعة من الجامعات فترة وجيزة من الزمن، فارتقى بالعمل، وصعَد به إلى مراتب عالية من المجادة، ثم ترك العمل.
والغريب في الأمر أنه كان متفانياً في عمله، مستغرقاً فيه حتى آخر لحظة، حتى إن بعضَ مَنْ هُمْ تحت إدارته شكَّوا في كونه سيترك عمله.
ولا ريب أن هذه النماذجَ وأمثالَها مفاخرُ تُرفع بهم الرؤوسُ، ويكون لهم الأثر البالغ في النفع، والتطوير؛ فيا لسعادة أولئك المخلصين، ويا لعظم أجورهم، وتسلسل نفع أعمالهم.
فأين أولئك من أناس لا همَّ لواحدهم إلا مصلحته الخاصة؛ فتراه لا ينتمي إلى العمل الذي يقوم به، ولا يشعر تجاهه بالإخلاص، والصدق، والحرص على الارتقاء بالعمل.
وإذا شعر بأن فترة عمله ستنتهي قَلَّ إنتاجه، وصار على مبدأ المثل العامي الدارج: (إذا كنت رائحاً فأكثر من الفضائح).
فإذا ودَّع هريرة أطاق وداعها، وإذا فارق العمل فارقه بذكريات أليمة، وسمعة سيئة، وربما أمانات مضيعة، وعند الله تجتمع الخصوم. ولعل هذا يفسر لنا تقدمَ العمل، وتطورَه في ميدان، وتأخرَه، وتخلفَه في ميدان آخر، وسِرَّ رُقِيِّه إذا تولى زمامَ أمره شخصٌ، وانحطاطَه إذا تولاه آخر.
وكم نحن بحاجة إلى ثقافة عامة تقود إلى تقدير المسؤولية، ومحبة العمل، والإخلاص فيه، والحرص على الرقي به.
وكم نحن بحاجة -كذلك- إلى محاربةِ البطالةِ، والفسادِ، والمبالغةِ في حبِّ الذات، وقلةِ الاهتمام بالمصالح العامة.
* الزلفي