الرياض - خاص بـ(الجزيرة)
التمسك بالثوابت ومسايرة مستجدات العصر في الخطاب الديني يعد من أوكد حاجيات المجتمع المسلم الثقافية الراهنة، ومما لاشك فيه أن الخطاب الديني مرتبط بالإنسان الذي هو اجتماعي بطبعه، وتبعاً لذلك ينبغي أن يتطور هذا الخطاب في ذاته موضوعاً ومنهجاً، كما ينبغي أن يعتني بمشاكل الإنسان، ويفي بحاجياته ويتجاوب مع طموحاته وآماله، كيف يمكن أن نحقق التوازن بين التمسك بثوابت ديننا الإسلامي الحنيف، وفي ذات الوقت فهم المتغيرات المعاصرة، والتعامل معها بما يحقق الأهداف المرجوة، وبالتالي تجديد النظرة إلى تراثنا الديني والثقافي على النحو اللازم لإبراز الوجه النير من حضارتنا، ولتحقيق الرقي الشامل لمجتمعنا وأمتنا.. وطرحت (الجزيرة) في الحلقتين السابقتين قضية تجديد الخطاب الديني، وأهمية ذلك للمحافظة على الثوابت.. وفي هذه الحلقة نناقش من المسؤول عن تجديد الخطاب الديني؟
التشريع بين الثبات والتغير
في البداية يوضح د. عبدالله بن إبراهيم الطريقي الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء بالرياض: إن هناك مصطلحان مهمان هما الثابت والمتغير: هما مصطلحان يدوران بكثرة في مجال الحراك الثقافي وهما حالتان ملازمتان للوجود، وهما كجناحي طائر لا يغني أحدهما عن الآخر.
فالثبات المطلق في هذا الوجود متعذر، فالله تعالى مازالت آثار قدرته متجددة، فهو يخلق ويحيي ويميت وهو تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}.
والتغير المطلق في هذا الوجود غير ممكن أيضاً فالله تعالى له الكمال المطلق الذي لا يعتريه التغير والتبدل وكثير من مخلوقاته خلقت على حالة معينة واستقرت عليها والوحي الذي أنزله على رسله - ومن القرآن - لم ولن يتغير، وكذلك معظم التشريعات هي باقية مستقرة غير متغيرة ولا متطورة.
وكذلك علينا أن ننظر إلى التشريع بين الثبات والتغير: فالأصل أن كل ما شرع الله ورسوله فهو باق وثابت لا يتغير سواء كان متعلقاً بالعقائد، أو بالعبادات أو بالمعاملات أو بالأخلاق.
إلا أن هذا التشريع على نوعين:
نوع مفصل كالعقائد والعبادات والأخلاق فلا مجال لتغيره أو تحوله، لأن جملته مبنية على التعبد.
ونوع مجمل ورد على شكل قواعد عامة، فهذا يدخل التجدد والتغير في كثير من صوره وأشكاله، ويندرج في هذا العقود المالية والمبايعات، وأصول السياسة والإدارة، وسائر أنماط الحياة.
ويطلق الخطاب الديني ويراد به: (النصوص التشريعية) أو الوحي ويطلق ويراد به التعبير عن النصوص التشريعية، فإذا أريد بالخطاب الديني: (الوحي نفسه) فلا مجال للتجديد أو التغيير في هذا الخطاب، لأنه ثابت في نفسه، وثباته عنوان قوته واستقراره، واستمرار فاعليته أبد الدهر، أما إذا أريد بالخطاب الديني: الحديث عن الوحي والتعبير عنه شفوياً أو تحريرياً، فهذا عمل بشري يدخله التجدد والتطور، بأي أسلوب كان التعبير، وبأي صيغة كانت، سواء سمي تفسيراً، أو شرحاً، أو استنباطاً، أو تخريجاً، أو مقارنة، أو حواراً ومناظرة، أو غير ذلك.
ومن نماذج تغير هذا الخطاب، أو تنوعه وتشكله، مدرسة أهل الحديث والأثر، ويدرسه أهل الرأي، فلكل من المدرستين خصائصها وسماتها، بل أصولها ومنهجيتها، وكذلك ما عرف بمنهج السلف، ومنهج الخلف في دراسات العقائد والفرق، حيث تميز كل منهج بأصوله وأسلوب تفكيره، وقد وجد مدارس جمعت بين المنهجين في أسلوب الخطاب كمدرسة ابن تيمية، ومدرسة الشاطبي.
عناصر الخطاب
ويوضح د. الطريقي أن التعامل مع الخطاب الديني أو الشرعي يقوم على عناصر أو أركان هي: الدليل الشرعي، وطرق الاستنباط من الدليل أو كيفية التعامل مع الدليل، والمتعامل مع الدليل، ودعاء الخطاب الديني، وهو اللغة.
أما الدليل فهو لا يتغير إذا ما كان صحيحاً ثابتاً (وقد أشرنا لذلك) وأما طرق الاستنباط أو كيفية التعامل مع الدليل، فذلك يتم وفق أصول مقررة، ذكرها أهل العلم، ولاسيما الأصوليين ويمكن تلخيصها في ثلاثة أمور:
الأول: معرفة القواعد الأصولية.
الثاني: معرفة مقاصد الشريعة.
الثالث: معرفة الناسخ والمنسوخ والتعارض والترجيح.
ولكل تفصيل لا يسعه المقام.
وأما المتعامل مع الدليل فلابد أن تتوافر فيه شروط ومواصفات تأهيلية تمكنه من التعامل مع الخطاب الشرعي (الدليل)، وقد بحث ذلك أهل العلم في باب الاجتهاد والتقليد، وأما الوعاء (أعني اللغة) فهي باب واسع وبحر لا ساحل له، وفيها من المرونة ما يجعل المتحدث أو الكاتب أمام خيارات كثيرة من التراكيب والألفاظ المترادفة والمتشابهة.
وبناء على ذلك كله، يمكن القول إن الخطاب الديني ليس من الجمود بما يجعله في قالب جامد لا يتغير ولا يتطور ولا ذو شكل واحد ينسحب على جميع أهل التخصصات والاهتمامات، بل إن له أنماطاً وأشكالاً وأساليب لا حصر لها بحسب ما يغلب على المتكلم أو الباحث، فإن كان نحوياً أو بلاغياً، غلبت على أسلوبه جوانب التفنن الوعائي في المفردات والتراكيب، ودلالتهما اللغوية، وإن كان مفسراً، كان أكثر وقوفاً عند الآيات ودلالاتها، وإن كان محدثاً كان أكثر المفردات الدارجة في حديثة (الرجال والحكم عليهم، والمتن والتحقق من ألفاظه)، وإن كان فقيهاً، فإنه يكثر من إصدار الأحكام الشرعية، وأدلتها النقلية، والفعلية، وإن كان في باب العقيدة والفكر فبحسب المدرسة التي تخرج فيها، فإن كانت سلفية وقف عند مرويات السلف، وإن كانت عقلية (خلفية) ركز على أدلة العقل. وهكذا.
حينما يوضع كل شيء في محله المناسب له يتحقق التوازن وتستقيم الأمور، فما كان ثابتاً من التشريع نظر إليه بوصفه معياراً وميزاناً توزن به الأحكام والتصرفات، وما كان متغيراً - وهو ما لا نص فيه - لكونه راجعاً إلى عرف أمر إلى مصلحة مرسلة، وقاعدة أخرى من قواعد التشريع، فلا بأس أن يتغير، بل لا بأس بتغييره وفقاً لمصلحة أعظم.
ولا ضير في التغيير حتى لو كان تراثنا العلمي والفقهي والحضاري يقتضي خلاف ما نريده، مادامت مصلحة الأمة المسلمة تقتضي التغيير.
منطلقات الخطاب
ويقول د. فالح بن محمد الصغير - عضو مجلس الشورى والمشرف على شبكة السنة النبوية وعلومها: لاشك أن الله جل وعلا بعث بنبيه صلى الله علية وسلم بهذا الدين، وأكمله سبحانه، وأتم علينا النعمة بذلك {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}، والله سبحانه وتعالى أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كتابه الكريم موضحاً لهذا الدين، ومبيناً أصوله ومعالمه، وفصّل ذلك كله محمداً صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة، فهما المصدران الرئيسان لهذا الدين.
وهذان المصدران بينا أصول الدين هذا الدين وفروعه وقواعده وضوابطه وأحكامه فأي خطاب يجب أن يكون منطلقاً منهما.
وظهر في هذا الوقت مصطلح: (الثوابت، والمتغيرات) كما أشرتم إليه في السؤال، وكما هو متداول في الأوساط الثقافية، أو كثيراً ما يرافق هذا نتيجة تذكر معه وهي: (التمسك بالثوابت، أما المتغيرات فيتعامل معها بما لا يؤثر على الثوابت) وهذا من حيث الإجمال صحيح، ولكن عند تنزيله على الواقع أو الدخول في التفصيلات لا يكفى الوقوف على هذا الإجمال، لئلاً يؤدي الإجمال إلى سلبيات في النظر إلى عدد من القضايا، ومن ثمّ إلى الأحكام الشرعية، ولذلك وضع أهل العلم قواعد وضوابط للنظر في النوازل و(المتغيرات) التي لم يسبق لها حكم شرعي، من هذه الضوابط: الاعتماد على دليل شرعي من القرآن الكريم أو السنة النبوية، وأن يعتمد على قاعدة شرعية، وألا يكون الدافع إلى النظر في النازلة الهوى، وأن يكون الناظر في النازلة أحد المجتهدين الذين تنطبق عليهم شروط الاجتهاد وليس لعامة الناس.
كما ظهر في الآونة الأخيرة مصطلح: (الخطاب الديني). وهذا المصطلح بهذا التركيب يحتاج إلى تفصيل، فالأصل في الخطاب الشرعي هو خطاب المولى جل وعلا في تشريعه.
ولكن إذا كان القصد - كما هو الظاهر - من التداول الآن، طريقة الخطاب والمحادثة هل يكون خطاباً مباشراً، أو وعظياً، أو يخاطب العقل، أو يخاطب الوجدان، أو يخاطبهما معاً، ونحو ذلك، فلا شك أن من الحكمة إعمال قاعدة: لكل مقام مقال كما يقول البلاغيون.
وبناء على ذلك فالمجتمعات المسلمة بحاجة إلى تنوع أساليب الخطاب، والحديث بما يناسبها، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذاً - رضي الله عنه - إلى اليمن قال له: (إنك تقدم على قوم أهل كتاب) يشير عليه الصلاة والسلام إلى أن القوم لديهم ثقافة قديمة يحتاج المخاطب لهم إلى درجة من الوعي بحالهم، ولغة التخاطب منهم. وهذا توجيه منه عليه الصلاة والسلام إلى أن يخاطب الناس بحسب حالهم مخاطبة الكبار تختلف عن مخاطبة الصغار، ومخاطبة المثقفين غير مخاطبة غيرهم، ومخاطبة المسلمين تختلف عن مخاطبة غير المسلمين، وكما جاء التوجيه في الأثر: (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله) وقبل هذا وبعده قولة تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وهذه قاعدة تأصيلية لضرورة كون الخطاب متناسباً مع المخاطبين.
وبناء على ذلك إن من الحكمة بيان الأصول الشرعية، وما عبر عنه ب(الثوابت) والتي تشتمل عدة أمور ومنهاً: أركان الإسلام وأركان الإيمان، وما أجمع عليه أهل العلم، وما كان معلوماً من الدين بالضرورة، وما كان عليه عامة أهل العلم، وكان الخلاف فيها شاذاً.
وكذا ما دلّ عليه الدليل الشرعي من القرآن الكريم والسنة النبوية، والقواعد الشرعية. ولا شك أن ما دلّ عليه الدليل يبنى على قواعد معلومة، وأدوات وآليات يفقهها أهل العلم المختصون، ولا تبنى على الاجتهاد الفردي بدون أن يكون لديه آلية وأدوات الاجتهاد.
أما المتغيرات بمعنى النوازل الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأسرية أو غيرها فتخضع لما سبق بيانه من اجتهاد أهل العلم. وبخاصة الاجتهاد الجماعي من خلال الهيئات والمؤسسات.
ولذلك من فقه الداعية، والكاتب أن يعي تلك الأدوات ليكون خطابه متوائماً مع ما يجب أن يكون من خلال ما ذكر.