Al Jazirah NewsPaper Friday  16/10/2009 G Issue 13532
الجمعة 27 شوال 1430   العدد  13532

اللسان
محمد عبدالكريم عبده

 

ما نال عضو في جسد الإنسان من الإشادة والتشهير، والاهتمام والغمط مثلما نال اللسان. قيل فيه ما قيل، وذكر في مآثره ونقائصه ما ذكر، ومما قيل، ان اللسان عضلة تكمن وراءها كل معضلة. واللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، صغير جرمه.

عظيم قدره، إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان. ثم انه ما من متخيل أو معلوم مظنون، أو موهوم إلا واللسان يتناوله أو يتعرض له بإثبات أو نفي، فإن كل ما هو متناول العلم يعرب عنه اللسان إما بحق أو باطل. وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء. وقديما قال الشاعر:

يموت الفتى من عثرة بلسانه

وليس يموت المرء من عثرة الرجل

فالشاعر يبين الفرق بين عثرة اللسان، التي يتعدى ضررها المرء إلى غيره، ويكون لها من الأثر أو الآثار ما يصعب محوها وتخفيف غلوائها، وعثرة الرجل الذي يقتصر ضررها على المرء وحده، وقد أحاطت السنة النبوية الشريفة هذا العضو بقدر كبير من الاهتمام، وتناولته بصورة تبرز تقلبه وتلونه الأمر الذي يورد بصاحبه موارد الهلاك في حالتي الإفراط والتفريط في استخدامه. فعن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه، عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة. وفي رواية، من وقاه الله تعالى شر ما بين لحييه وما بين رجليه، أضمن له الجنة. ومنها قولهم: المرء بأصغريه، قلبه ولسانه. واللسان رحب الميدان، ليس لحده ولا لمجاله منتهى. ففي الخير له مجال رحب، وفي الشر له مجرى سحب، فمن أطلق لسانه، وأرخى له العنان وأهمله، سلك به الشيطان مسالك مهلكة وساقه إلى شفا جرف هار. ولا نجاة من شر اللسان إلا عندما يلجم بلجام الشرع، فلا يطلقه الإنسان إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، ويكف عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله. وعلم ما يحمد اطلاق اللسان فيه أو يذم غامض عزيز، والعمل بمقتضاه ثقيل عسير، فأعصى الأعضاء على الإنسان اللسان، إذ لا تعب في تحريكه ولا مؤونة في إطلاقه. وقد يتساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته وغوائله، والحذر من مصائده وحبائله، فاللسان للشيطان يستعمله لإغواء الإنسان ليورده موارد الهلاك، كما أكد الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (وهل يكتب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)، كذلك ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفّر اللسان فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن منك، إن استقمت استقمنا وان اعوججت اعوججنا.

على كل مكلف ان يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلاما تظهر المصلحة فيه، ومتى ما استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء. قال - صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فهذا الحديث المتفق على صحته، نص صريح في انه لا ينبغي ان يتكلم إلا إذا كان الكلام خيرا، وهو الذي ظهرت له مصلحته. ومتى ما شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم. وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: إذا أراد أحدكم الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلم وإن شك أمسك حتى تظهر. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أي المسلمين أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. وأما الآثار عن السلف وغيرهم فلا حاجة إليها مع ما سبق لكننا ننبه على عيون منها، بلغنا ان قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تحصى، ووجدت خصلة ان استعملتها سترت العيوب كلها، قال: ما هي؟ قال: حفظ اللسان.

وقال الإمام الشافعي رحمه الله لصاحبه الربيع: يا ربيع، لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا تكلمت بالكلمة ملكتك ولم تملكها وقديما قال الشاعر:

احفظ لسانك أيها الإنسان

لا يلدغنك إنه ثعبان

كم في المقابر من قتيل لسانه

كانت تهاب لقاءه الشجعان

إن لفظة لغة في اللسان العربي هي الوحيدة من بين كل ألسنة العالم الشاذة والمستعملة للدلالة على كلام العرب، حيث ان الألفاظ المستعملة للدلالة على الكلام في اللغات غير العربية تعني اللسان، وهو ذلك العضو البشري الموجود بين فكي الإنسان، حتى في كلام اليهود فإن معنى لغة (ليشين) تدل على اللسان. والقرآن الكريم عند ذكره وصف اللغة التي أنزل بها يقول {بلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}او { قرآنًا عَرَبِيًّا}يقول الحق جل وعلا في محكم تنزيله {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}ولم يذكر القرآن لفظة (لغة) على الاطلاق، والفرق بين اللغة والسان، اللسان عام واللغة خاصة، فاللسان قد يضم أكثر من لغة واحدة كاللسان العربي فهو يضم لغات القبائل العربية كلها. عن ابن عباس رضي الله عنه قال: نزل القرآن على سبعة أحرف أو قال بسبع لغات. ومما جاء في القرآن الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ.. الآية}ويقول جل من قائل {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا}، ومما يظهر من استقراء النصوص ومن لسان العرب، ان اللغة مشتقة من (اللغو) وهو بنص القرآن يحمل من المعاني القبيحة ما يحمله وعليه كان استخدام اللسان للإشارة إلى آلة التعبير والبيان. وعلم اللسانيات، linguistics، وهو العلم الذي يهتم بدراسة اللغات الإنسانية ودراسة خصائصها وتراكيبها ودرجات التشابه والتباين فيما بينها، وعالم اللسانيات هو الشخص الذي يقوم بهذه الدراسة التي ظهرت في القرن 19م وهي متعلقة بدراسة اللغة. والتاريخ الحديث يذكر لنا جهود الشيخ رفاعة الطهطاوي لدى عودته من فرنسا وإنشائه عام 1835 لمدرسة الترجمة والتي سماها (مدرسة الألسن) أي مدرسة اللغات. وكان الطهطاوي يأمل في إنشاء مدرسة عليا لتعليم اللغات الأجنبية وإعداد طبقة من المترجمين المجيدين يقومون بترجمة ما تنتفع به الدولة من كتب الغرب، فاقنع محمد علي والي مصر آنذاك، ونجح في إقناعه بإنشاء مدرسة للمترجمين عرفت بمدرسة (الألسن) افتتحت عام 1835م وكانت تضم فصولاً لتدريس اللغة الفرنسية، الإنجليزية، الايطالية، التركية والفارسية، والشاهد في اختياره لاسم (مدرسة الألسن) إشارة لمدرسة اللغات مؤكدا بأن اللسان هو اللغة والمنطق.

وللسان مساجلات مع الشعراء، وكأنهم، أي الشعراء على موعد معه، فاللسان حقيقة يشكل مادة دسمة لما ينظمونه من شعر، فنرى شيخ الشعراء، وأشعرهم، (والأخيرة رأي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه)، فقد كان يقول بأن أشعر العرب زهير، والمقصود زهير بن أبي سلمى صاحب المعلقة الشهيرة والتي مطلعها،

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

بحومانة الدراج فالمتثلم

يقول زهير:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده

فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

وهذا بلا شك ارتقاء بقدر اللسان، إذ عادله الشاعر بنصف الإنسان، أي لم يعد عضوا كسائر الأعضاء فقط، وهذا الارتقاء يبين بوضوح ما للسان من خطورة استعدت عليه بقية الأعضاء، كما جاء في الحديث (اتق الله فينا..)، والغريب ان اثنين من فحول شعراء العربية، لقيا حتفهما على يد ذلك القابع بين لحييهما، وهما طرفة بن العبد البكري، صاحب المعلقة الشهيرة والتي استهلها ب:

لخولة أطلال ببرقة ثهمد

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

والذي قتل لهجائه للملك عمرو بن هند، وذكر ان أحد حكماء عصر طرفة استمع إلى شعره وفصاحته وطريقة حديثه وقال: (ويل لهذا من هذا) مشيرا إلى طرفة وإلى لسانه، أي لسان طرفة، فصدقت نبوءته وفراسته.

وليت أبا الطيب كف عن هجاء ضبة بن يزيد الأسدي، ذلك الهجاء المقيت والذي بدأه بقوله:

ما أنصف القوم ضبة

وأمه الطرطبة

ليلقى أفحل شعراء عصره جزاء ما اقترف لسانه.

فاحرص أخي ان يكون لسانك غضا رطبا بطيب القول وحلو الحديث، واحذر زلاته، ولدغاته، فانه جعل بين اللحيين ليؤمن شره ويكف بأسه.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد