كان الجار حتى الماضي القريب عظيم الشأن لدى جاره ومصدراً من مصادر إسعاده أو إتعاسه، وكثيراً ما يقضي الجيران جزءاً من طفولتهم وشبابهم مع بعضهم، فيتأثرون فيما بينهم، ويعيشون في مرابعهم في صحبة تارة، وشقاق تارة أخرى، لكن الذكريات الجميلة تبقى، والمحبة تغلب، والوفاء يسود. وتغيرت الحال فيما بعد فأصبح زملاء المدارس بدلاء عن جيران المنزل، أثرهم أكبر وأعمق لقضائهم جل الوقت معاً، وبعدهم عن تأثير الأهل ومراقبتهم، كما أن ميدان العلم والتعلم ربما يدفع ببعض إلى التقليد في النهج والسلوك، فالطالب المجتهد الجاد ربما يحاكيه صديقه، أو زميله فيحذو حذوه، فيكون داله إلى الخير في العلم، وربما في السلوك إن كان سلوكه قويماً، وقد يكون خلاف ذلك إن كان السلوك غير سوي.
|
وأحسب أن كلا منا قد احتفظت ذاكرته بشيء من الذكريات عن الجيران إن كان متقدماً في السن، أو زملاء مدرسة إن كان حديث السن، يذكر الخلال الجميلة، والمواقف المحرجة، وقد ينتقل إلى مكان آخر فربما يحب مكانه الجديد أو قد لا يحبه، لكنه يظل حاملاً تلك الذكريات.
|
ونقل لنا الأديب الأندلسي شيئاً من رسائل وأشعار أبي بحر التجيبي الذي عاش في مرسية إحدى مدن الأندلس التي حاصرها الموحدون سبع سنوات من سنة 560هـ إلى نحو سنة 567هـ. وكان أبو بحر آنذاك في طفولته فراعه الحصار وضيق الحال، وكان لهوه ومرحه مع أبناء جيرانه مصدر نسيان المعاناة، التي ربما لا يجدون معها ما يكفيهم من مأكل أو ما يرويهم من مشرب. وعاش جزءاً من حياته في مدينة مرسية حتى بلغ الثانية والعشرين من العمر، حيث عين أبوه قاضياً في مدينة شاطبة، فألزمه والده من فرط محبته له أن يذهب معه إلى شاطبة ففعل، لكنه لم ير فيها مدينة تستحق قضاء عمره فيها، ولم يجد من شبابها ما يجدر به اصطفاءه خليلاً، فكتب رسالة سماها (شرك العقول ومسرح الأنس المعقول) كتبها إلى بعض إخوانه في مرسية فقال في جزء منها:
|
لا يبعد الله جيرانا تركتهم |
مثل المصابيح تجلو ليلة الظلم |
ما منهم إلا من سنّ الفضائل وشرعها، وولد أبكار معاني السيادة واخترعها، منهم يعد المجد التالد والطارف، وعلى أجسادهم خلقت منه المجاسد والمطارف.
|
من تلق منهم تقل لاقيت سيده |
مثل النجوم التي يسري بها الساري |
قول حل الشباب في أرضهم تمائمي، وتبسمت عن زهرات الصبا كمائمي، نشأت فيهم وليداً، ولبثت من عمري سنين، وأعرست بعقيلة السرور بما شئت من رفاه وبنين، وأنا كأهل سبأ من غير إعراض (بلدة طيبة ورب غفور).
|
هكذا وصف أبو بحر مرتع صباه، وعشرته مع من ارتضاه، لكنه بعد أن ذهب إلى مدينة شاطبة التي لم يأنس بها، وكثر حساده فيها، بعد أن ارتقى سهمه، وعلا شأنه، فكتب رسالة أخرى سماها (رسالة الزند الواري في الرد على الناقد المتواري) يرد بها على أحد حساده، فقال: (مثلك أيها العادي من غير نبأ، مثل المعرضين من أهل سبأ، ساعدهم سرب عفور، واكتنفتهم (بلدة طيبة ورب غفور) فصدق عليهم إبليس ظنه، وحقق في طغيانهم ما ظنه، فمال عن جانب ظل منصرم، إلى كنف هجير كالهجر مضطرم، فأعرضوا فأرسل عليهم سيل العرم).
|
وأطال في رسالته، حتى إنه نقد مدينة شاطبة وأهلها، وتحدث فيهم بما لا يحسن به الحديث إلى أن قال: (أيها الشاطبي المتوارى علينا، الذي حسبت جهالته الصخر ليّنا، فما أظنك شعرت، ولا أخالك عقلت أي قيد اعتقلت، ولا أحسبك علمت بأي حد كلمت، أعرفت بما هرفت، أم قدرت بما أقدرت، لا جرم أنك عثرت فيما نقلت، وتورطت فيما أفرطت، وزوّرت في الذي صورت.
|
كالبحر يشتمه الغريق وموجه |
من فوقه متلاطم التيار |
وأعلمك أنك طغى بك قلمك، وصور لك الغاويات فكرك وإبليس، وهما كلهما لو ساعد النظر تزوير وتدليس.
|
ولقد أطال وليس هذا مقام الإطالة، وما دعاني إلى كتابة هذه العجالة مع ما فيها من الملالة، توارد خواطر، جالت فأبت إلا أن ترى النور، لتصور المجورة وحسن الجوار، والغربة وبعد الدار، فنفث أبو بحر التجيبي نفثته في قلمي فنقلت من سحر بيانه ما وافق خاطري، أما شعره ونثره فكثير وجميل مع قصر عمره، وإناخة الفتن في زمنه.
|
والحكيم من أسعد نفسه بالقناعة وأقلم نفسه مع واقعه، وسعد بما هو فيه ورضي بما أعطاه الله، وأحسن استغلال عمره القصير في إسعاد نفسه بالرضى بما نال، والانصراف عن الآمال.
|
|