المندوب منادى خاص؛ لأنه نداء لما لا يرجى إقباله أو هو نداء لما لا يكون منه الإقبال كالظهر من الإنسان، وغاية المنادي حين يندب أو يتوجع رفع صوته بما يدفع عن النفس شيئًا من الضيق بالمصاب، فالندب شكوى كما أنه بيان للتوجع، فأنت تقول (وا غلاماه) كما تقول (وا ظهراه)، ولذلك كانت الواو أنسب أدوات النداء لهذا الغرض. ويرى النحويون أن ألف المندوب مزيدة على اللفظ لهذا الغرض، كما هي مزيدة في التعجب في قولك (وا عجبا)، وأما الهاء فهي للسكت لا يؤتى بها إلا في حال الوقف، ومن الشذوذ أن تبقى في الدرج. وقول النحويين إن هذه الألف مزيدة متوقف فيه عندي، فالذي أراه أن المندوب ليس سوى حالة من حالات نداء المضاف إلى ياء المتكلم، وهي الحالة التي تحذف فيها ياء المتكلم وحركة الإعراب التي قبلها، ويعوض عنهما بمطل فتحة الياء (وا غلامِيَ وا غلاما) وفي الوقف (وا غلاماه)، وقد يحتج بأننا نقول (وا زيداه)، وليس في ذلك حجة عندي؛ إذ لم أندب (زيدًا) إلا لمنزلته التي جعلته مضافًا إليّ، فليس من مندوب عندي سوى ما أضيف إلى ياء المتكلم أو أنزل منزلته (وا زيديَ وا زيداه)، وكذلك ما يكون من شأن التوجع (وا ظهريَ وا ظهراه) والتعجب (وا عجبيَ وا عجبا). وإذا تقرر هذا كان بالإمكان أن نستغني عن احتراز النحويين الذي احترزوه، وهو قولهم بوجوب العدول عن الألف إلى الواو أو الياء إن خيف اللبس، فهم يزعمون أنك إن ندبت ما هو مضاف إلى ضمير الغائب (غلامَه) فإنك لو أضفت الألف (وا غلامهاه) صار مطابقًا لندب ما أضيف لضمير الغائبة (غلامها)، فوجب أن يقال (وا غلامهوه)، ومثله ندب ما أضيف إلى المخاطب والمخاطبة (غلامكَ/غلامكِ) فيوجبون أن يكون مع المخاطب (واغلامكاه) ومع المخاطبة (واغلامكيه). والقول كله مشتمل على مغالطات فإن كان ندب المضاف إلى ياء المتكلم بحذفها فكيف يُبقى على هذه الضمائر، وبغض الطرف عن أن إضافة الألف مع الضمير (ها) غير مفهومة ولا معلومة الكيفية، نقول: إن هذا الاحتراز لا قيمة له لأنه لا محل له، فليس يندب سوى ما أضيف إلى ياء المتكلم. وليس لهذا العمل العقلي القياسي البحت الذي أقحم في نحو العربية من قيمة فهو من الفضول الذي لا يعتمد على استعمال. وبقيت مسألة أخرى معتمدة على افتراض زيادة الألف وهي إعراب المنادى معها، والنحويون يذهبون إلى تقدير الحركة، فإن كان المندوب مفردًا حسب تصورهم فالضمة التي هي حركة البناء مقدرة كما في ندب (وا زيداه)، وإن كان مضافًا فالفتحة كما في (وا غلاماه). والقول في هذا عندي أن المندوب الذي هو مضاف إلى ياء المتكلم ليست حركته مقدرة بل هي محذوفة كما بينت ذلك في مداخلة سابقة عند الكلام على إعراب المنادى المضاف إلى ياء المتكلم، وخلاصته أن علامة ما أضيف إلى ياء المتكلم تماثل ياء المتكلم فالفتحة والضمة تستحيلان كسرة معها انسجامًا صوتيًّا، (غلامِيَ)؛ ومن صور نداء هذا الاسم أن تحذف الياء وعلامة الإعراب ويعوض عنهما بمطل الفتحة فتكون الألف (يا غلاما)، وهكذا هو الأمر في المندوب، تقول: (واغلاماه).
* * *