فازت الكاتبة الألمانية (هرتا مولر) بجائزة نوبل في الأدب وسبب الاستحقاق كما صرحت به الأكاديمية السويدية هو قدرة السيدة هرتا على تصوير (حياة المحرومين).
وكل عام بعد إعلان جائزة نوبل في الأدب يُثير كتّاب العرب ذات الموضوع لماذا تُستبعد التجربة الثقافية العربية عن جائزة نوبل رغم توسع ظاهرة ترجمة بعض التجارب الثقافية لكتّاب عرب إلى لغات مختلفة مما قد يقرّب تلك التجارب إلى العالمية، إلا إذا كان مفهوم العالمية لا ينحصر في قيمة الترجمة أو بمعنى آخر أن الترجمة لا توفر للتجربة الثقافية العربية إمكانية تحقيق الجوائز العالمية.
فهل مسألة الاستبعاد تتعلق بخلفيات سياسية؟ أو أنها تتعلق بفلسفة المعايير التي تحدد إجرائية الاستحقاق وقيمته؟.
لاشك أن الاستحقاق في أي مجال هو حاصل فلسفة المعايير وبذلك فهو يساوي في مجمله قيمة مخصوصة مرتبطة بمجموعة تلك المعايير؛أي أن القيمة التي تحقق الاستحقاق هي مجموعة معايير، والمعيار ذو صفة كيفية ينبني عليه جدول التقويم خلاف النسبية التي تعتمد على التقدير الكمي وتصوغ من خلالها وجهات النظر.
فإذا تجاوزنا البعد السياسي أمكننا القول بأن إشكاليات التجربة الثقافية العربية كما أظن تنحصر في فلسفة المعايير، تلك الفلسفة التي تحدد مستوى الاستحقاق ونوعية القيمة.
وتستطيع تحديد ملامح هذه الإشكالية إذا قارنت بين الأعمال الأدبية التي فازت بجائزة نوبل في الأدب والأعمال الأدبية العربية، وهي مقارنة ستكشف لك منظومة فلسفة المعايير من خلال الخصائص المشتركة بين الأعمال الأدبية التي فازت بجائزة نوبل في الأدب وهي خمسة معايير وفق قراءتي لتلك الأعمال (وجود قضية إنسانية، وجود رؤية عالمية، وجودة وحدة التجربة، ووجود المنطق الإصلاحي، ووجود مواضعة ثقافية) ويمكن إيجاز توضيحها بالآتي:
* إن تلك المعايير لا تتحقق إلا بالبعد عن التعالي في عرض الرؤية الإنسانية المكونة للإطار الدرامي للتجربة الإبداعية، وهي خاصية تحول التجربة الإبداعية إلى كرة بلورية ترى من خلالها كل الوجوه وتسمع كل الأصوات وهو أمر لا يتحقق إلا من خلال قدرة الكاتب على إيجاد توازن بين أفق تصوره الثقافي وأفق التصور الثقافي للقارئ وأفق التصور الثقافي للإحالة، وذلك التوازن هو الذي يخلق دينامكية الصراع الدرامي المبني على المنطق الإصلاحي، والذي يعتبره لوسيان غولدمان مجموعة السلوك التي تحاول تقديم دلالات توضيحية لمواقف تنزع من خلالها إلى إيجاد توازن بين الفاعل الثقافي والموضوع الذي يتناول العالم، وهو توازن يحقق للبني الذهنية للفاعل الثقافي معرفة مخصوصة تحول داخلها سلوك الإنسان والعالم ضمن إستراتيجية(رؤيا العالم) التي تُعتبر مركز عظمة العمل الأدبي لأنها تُنتج الخيال الخلاق الذي يسهم في إيجاد تطابق بين البنى الفنية والبني التي ترمز إلى خلفية الجماعة مما يوفر ذلك التطابق شرط التوازن بين الفاعل في وصف مقومات الوعي الجمعي والعالم الخارجي وهو ما يحقق للعمل الأدبي مشروعية (المشروع الثقافي).
وقد قمت قبل فترة بإجراء دراسة تحليلية عن المنطق الإصلاحي للصراع الدرامي لبعض الروايات العربية والعالمية ضمن باب فلسفة المعايير، - قد أنشر الجانب المتعلق بالمصطلحات عند عودة الثقافية- ووجدت أن الروايات الفائزة بجائزة نوبل تكاد تشترك في سلم فني واحد للنشاط الدرامي للصراع، في حين أن الروايات العربية التي أخضعتها لذات التحليل تكاد تفتقد قيمة الصراع كنشاط درامي وتتخذ الوحدة الانفعالية في إنتاج الصراع بدلا من النشاط الدرامي في إنتاجه، والوحدة الانفعالية التي يستسهلها كاتب الرواية بدلا من تصميمه للنشاط الدرامي لا تولد صراعا كما يتوهم الكاتب بل تولد توترا، والتوتر مهما بلغت قوته لا يستطيع أن يحمل أحداثا بخلفياتها وشخصيات بسيرها وأماكن بذاكرتها مثل النشاط الدرامي وهو ما يفسر لنا هيمنة الصور كبديل للأحداث وخاصة في الرواية السعودية، فالكاتب يستبدل الصورة بالحدث، والصورة هي الإطار التعريفي للوحدة الانفعالية فهي تخلو من محتوى معاشي أو السلسلة الدرامية للفعل (المواضعة الثقافية)، وتلك السلسلة هي التي تتيح للقارئ صناعة السيناريو الخاص للنشاط الدرامي الإضافي للنص والتي تؤسس علاقة الشراكة أو التأثر والتأثير بين أفق المحمول الثقافي للكاتب وأفق المحمول الثقافي للقارئ.
كما أن الكاتب العربي يسعى دوما من خلال موضوعاته الأدبية إلى فرض تصوره المتعالي، وهو فرض يُقصي من خلاله أفق التصور الثقافي للإحالة وللقارئ وهو أمر يصنع حاجزا بين الموضوع الأدبي والتجربة الثقافية للقارئ كما أنه يُفقد الثقة في جدية الكاتب عند القارئ، لأن الكاتب العربي في موضوعه الأدبي يتعمد الضغط على خلفيات القارئ سواء بالهبوط أو الصعود وكليهما حاصل الرؤية المتعالية للكاتب مما يدفع القارئ إلى الثورة على الموضوع الأدبي للكاتب، والثورة لا تمثل علاقة تغير للقارئ إلا بمعية الموضوع الأدبي وليست ضده وهذا هو الفرق بين الإثارة والثورة، فالإثارة تتعمد الضغط على خلفيات القارئ، والثورة تهدف إلى صناعة علاقة تغير يقودها القارئ.
* تتميز الأعمال الأدبية الحائزة على جائزة نوبل بوجود تجربة وليس حالة أو حالات كما نجدها في الموضوع الأدبي للكاتب العربي، ووجود التجربة عادة ما يرتبط بحضور المنطق الإصلاحي، فالمنطق الإصلاحي ليس مجرد إستراتيجية بنوية فحسب بل هو أيضا مواضعة ثقافية.
والتجربة حتى تتحقق بمعية المنطق الإصلاحي والمواضعة الثقافية مشروطة بالتراكمية، والتراكمية لا تنحصر في المقياس الزمني فقط بل تعني تطور موضوع التجربة، وهو أمر يحتاج إلى إيمان صادق من قبل الكاتب بدوره ومسئوليته نحو قضايا مجتمعه، وهذا ما يلفت انتباهك وأنت تقرأ الأعمال الأدبية الفائزة بجائزة نوبل ليس العمل الفائز فقط بل وأعمال أخرى لنفس الكاتب تجدها جميعا تمثل وحدة تجربة رغم اختلاف الحالات والمواقف وأعتقد أن عبقرية الروائي تكمن في هذه المنطقة أي قدرته على صناعة وحدة تجربته الثقافية مع تعدد فضاءات الحالات والمواقف.
في حين أن الكاتب العربي يعتمد على الموضوع بدلا من تصميم التجربة وتعدد الموضوعات لا يصنع تجربة ثقافية وهو ما يجعل أعمال الكاتب العربي تفتقد وحدة التجربة أو شرطية التراكمية.
صحيح أن بعض كتّاب العرب يملكون تجربة مثل عبدالرحمن منيف أو أدونيس غازي القصيبي إلا أن تلك التجربة تفتقد إلى القيمة؛ أي إحداث تغيرا أو إضافة أو تصحيحا سواء على مستوى البنية أو الرؤية أو النظام وهذه نتيجة الرؤية المتعالية للكاتب العربي الذي يكتب من زاوية المعلوم لا المحتمل، لأن المحتمل هو الذي يبني قدرة الكاتب على تصميم المواضعة الثقافية والنشاط الدرامي للصراع ويمنح التجربة قابلية التراكم، أما المعلوم فهو يؤطر ذاكرته التخيّلية وقد يعتقد بعض الكتّاب أن التأطير هو مرادف للواقعية وهو اعتقاد غير صحيح فالواقعية ليست إطارا بل نشاطا لابد أن يحقق علاقة التأثر والتأثير.
في حين أن الأعمال الفائزة بجائزة نوبل تحتوي على قيمة إيجابية وهذه القيمة عادة ما يختتم بها البيان الرسمي لتوضيح سبب الاستحقاق، والقيمة ووحدة التجربة والأثر والمواضعة الثقافية كل تلك الأمور لا تتحقق للتجربة الثقافية إلا في ظل تبني الكاتب قضية إنسانية، والقدرة على تصوير الأشياء وزرع تأثيرها في الآخر لا يتحقق بدوره إلا من خلال إيمان الكاتب بقضية محتوى ذلك التصوير، أما الكاتب العربي فهو لا يملك قضية بل يتبع الرائج من الموضوعات وإن أمتلك قضية أضعفها بعجزه بسبب عدم قدرته على صياغة منطق إصلاحي وضيق أفقه على تصميم برنامج للمواضعة الثقافية وفوضى وحدة تجربته الثقافية.
وفي النهاية تظل الجودة والرداءة والعظمة والقيمة جميعها تخضع لفلسفة المعايير.
* * *