أن تكون عند نقطة الالتقاء العذبة، أو أن تشهد كيف يذوب الحلو في الأحلى، يعني أن تكون عند (مقرن النيلين) في السودان، وفي الخرطوم تحديدا.. حيث يلتقي النيل الأبيض بالنيل الأزرق في نقطة التقاء فتنة ساحرة، وحيث تأتيك الطبيعة خضراء غضة وديعة، أنيقة في بساطتها، باذخة الجمال في عفويتها. تلك العفوية التي لم يعد بريقها يلمع في عيون الكثير من عواصمنا العربية.
أن تكون في الخرطوم بين مثقفيها وشاعراتها وشعرائها، يعني أنك تجدِّد عهد روحك بالقوافي والأوزان التي تنساب من فم شعراء السودان سلسة سهلة وشهية طازجة، تخرج من فرن ذاكرة شعرية حافظة لا تنسى بيتاً مهما طالت قامة القصيدة؛ ما يدفعك إلى التعلق بثوب دهشة تغريك بالتساؤل عن السر الذي يجعل الشاعر السوداني حافظاً لقصائده وقصائد غيره، يتلوها أمامك بحرفية متقنة، معتمدا في ذلك على ذاكرته لا على الورق. وهذه أيضا نقطة من نقاط الالتقاء العذبة، التي يسيل فيها طعم شهد القوافي على ياسمين ليالي الشعر واحتفالاته وملتقياته. فإن شهدتها فتأكد أنك بين يدي الفاتنة السمراء خرطوم الثقافة والشعر.
شاء الله الأقدار وساقتني قدماي لأشهد نقاط الالتقاء السابقة، ولأكون في الخرطوم بدعوة كريمة من وزارة الثقافة في السودان مشاركة ضمن الوفد السعودي الذي مثل المملكة في معرض الخرطوم الدولي للكتاب منذ أيام؛ حيث عانقتنا الخرطوم بحنو، وأحاطتنا ببهجة تتدفق بطيبة الإنسان السوداني وأصالته ضاربة الجذور في عمق الأصالة. وحيث استقبلتنا الخرطوم بشغف كبير أيضاً لمعرفة المزيد عن تفاصيل وجه الثقافة والأدب في مملكة الحب. محاضرات وجلسات نقدية سعودية - سودانية أقيمت هنا وهناك، وأصبوحات وأمسيات شعرية حضرها النخبة والطلبة والسياسيون أيضا! ولعل السودان تتميز عن غيرها في ذلك؛ فهي العاصمة العربية التي يجري الشعر مجرى الدم في عروق كل من فيها حتى الساسة منهم وأصحاب القرار. وقد كنت أحدث نفسي بذلك تلك الليلة وأنا أجلس وزميلاتي وزملائي من أعضاء الوفد السعودي المشارك بكل بساطة وكأننا في بيتنا، ونتحدث في الثقافة والفكر والأدب بين يدي السيد نائب رئيس الجمهورية علي عثمان طه الذي دعانا مشكورا إلى بيته، واستقبلنا بود وترحاب ودماثة أخلاق عجبنا لها نحن المثقفين البسطاء، ثم امتدت أغصان شجرته المعرفية فطالت اللغة والأدب والشعر، فازداد عجبنا عجبا. والتقت أطراف حديث معالي وزير الثقافة والسيد وكيل وزارة الثقافة، اللذين حضرا اللقاء بأطراف حديثنا فأمطرت الجلسة فكرا وشعرا عذبا. والتقت أطراف الحديث الثقافي السعودي - السوداني في نقطة التقاء عذبة صافية ما أفقنا من حلاوتها إلا ونحن نودع أصحاب السياسة والثقافة مغادرين دار السيد نائب رئيس الجمهورية يصحبنا سعادة الملحق الثقافي في الخرطوم الأستاذ ناصر البراق.
لقد استطاعت الملحقية الثقافية في السودان بدعم من معالي وزير التعليم العالي الدكتور خالد العنقري ونائبه الدكتور علي العطية أن تحرك المياه الراكدة في العلاقات الثقافية بين المملكة والسودان، وأن تزيد عذوبة الماء في (مقرن النيلين) عذوبة، وذلك من خلال المشاركة في هذه الدورة من معرض الخرطوم الدولي للكتاب، حيث كانت المملكة ضيف الشرف في هذا المعرض. ولقد استطاع البراق خلال الفترة الزمنية البسيطة التي تولى فيها شؤون الملحقية أن يمد جسورا ثقافية أنيقة بين الرياض والخرطوم من خلال تواصله مع المؤسسات الثقافية والسياسية أيضا في السودان؛ ما يجير لصالح الوطن. وفي دعوة السيد نائب رئيس الجمهورية واستقبال معالي وزير الثقافة السوداني للوفد السعودي في مطار الخرطوم ما يثبت أن الملحقية قد نجحت في خلق فضاء ثقافي صحي يجمع بين الأشقاء في البلدين. ويثبت أيضا أن دور الملحق الثقافي قد يضاهي دور السفير في بعض العواصم. فكيف ستكون حبال الود الثقافية لو كان هذا الملحق الشاب، وهو المثقف والإعلامي، ملحقا في إحدى العواصم العربية أو غير العربية المؤثرة في صناعة القرار السياسي وفي تشكيل ملامح الخارطة الثقافية؟
إن ضخ ملحقياتنا الثقافية بالدماء الشابة الواعية والمثقفة سيصب في مصلحة الوطن سياسيا وثقافيا وإعلاميا. وإن الوفرة التعليمية والمعرفية التي تشهدها المملكة اليوم خاصة في مجال التعليم العالي حيث حصلت بعض جامعاتنا على مراكز متقدمة في تصنيف الجامعات عالميا بحاجة إلى أن تواكبها وفرة وانتشار ثقافي يزهر ويؤتي أكله من خلال الملحقيات السعودية المنتشرة في كف خارطة العالم.
شكرا لملحقيتنا الثقافية في السودان. شكرا لكل الطلبة السعوديين المبتعثين الذين حضروا الفعاليات الثقافية السعودية ودعمونا بحضورهم وبتشجيعهم لنا كزوار أتوا من المملكة يحملون رائحة الوطن. شكرا لجمال السودان. شكرا لاتحاد المصارف ولاتحاد طلبة جامعة الخرطوم. شكرا لاتحاد المرأة السودانية الذي أمطرنا بالحب والهدايا. شكرا لكل المثقفات والمثقفين والشاعرات والشعراء، وشكرا لإنسان السودان، الذي يضاهي جمال روحه جمال ملتقى النيلين ساعة الأصيل.
سألني الكثيرون بعد عودتي من هذا الملتقى: كيف السودان؟ حلوة؟ فأجبت: حلوة.. وطعم شهدها لم يزل في فمي.