الإهداء (إلى امرأة هزم اليوم أمسها.. والأمس شهيد!!) هنا في (برلين)
في ساحة (الكودام)
كان الأصيل طويلاً.. انتعلت الرصيف المزدحم بالناس وبوحدتي غريب أنا.. وكل الوجوه غريبة عني.
حتى الشمس التي رسمت على جغرافية المكان صورتها تشبه عتمة أعماقي.. ففي مرآتي أنا لا أعرفها!!
مررت بمجموعة من الناس وقفت تتفرج على شاب ألماني يمارس ألعابا بهلوانية.. وحركات خطرة على المسرح الأسمنتي ودهشة الناس تقتات من رشاقته.. لم أطل الوقوف مع الناس.. وضعت عملة معدنية كانت معي في قبعته الملقاة بالأرض.. لا لأن الرجل أبدع وأمتعني، ولكن لأني رأيت الابتسامة في وجوه الناس من حوله!!
هنا في (برلين)
في ساحة (الكودام)
عبرت من الرصيف إلى الرصيف
عبرت بصمت.. وبضجيج صمت
وصلت إلى مكان كان فيه فنانون يرسمون وجوه السياح، وصرت أتنقل بين مرسم ومرسم.. أتأمل الوجوه داخل إطارات الرسم.. وبينما أنا واقف أتأمل هذا المشهد البديع نظر إلي ذلك الرسام العجوز الآسيوي الأصل.. ابتسم لي ودعاني إلى مرسمه.. والكرسي الخشبي الصغير.. يريد أن يرسمني.
وفي مجاهل الحركة.. راقت لي الفكرة وقلت في نفسي ليتك ترسم أعماقي ولا ترسم وجهي!!
جلست على الكرسي الصغير.. وبدأ الإصبع السادس يرسم وجهي.. الناس يتوقفون ليطالعوا الرسم ثم يلقوا نظرة على وجهي..
هذا الفنان لا يتحدث اللغة العربية ولا يتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة..
وكانت لغة الإنسان بيننا!
فجأة.. توقف الرجل العجوز عن الرسم.. ونظر إليَّ مجهد النظرة ثم قال: رسمت وجوهاً كثيرة لكن ما أصعب أن أرسم وجهك!!؟
قلت له: لم سيدي؟.. الوجوه تتشابه!!
قال: عندما تكون الحقيقة عميقة يصعب وصول الخيال إليها.. أجل الحزن العميق الذي يسكن عينيك وثرثرة نظراتك بأسرار لا تقال.. من الصعب أن نلونها وأن نعطيها من محبرة المعاني لون حقيقتها..
قلت له: حسنًا سيدي.. أنا لا أريد أن يرسم الآخرون أسراري.. لا أريد أن أفقد ذاتي.. في أحلامي أسرار وفي آمالي أسرار.. بل حتى في ألمي وجرحي أسرار.. وقلبي حين يطرب يغني لأسراري وأراقص حبيبتي داخلي على مسرح الكتمان!
ضحك الفنان العجوز وقال: ما الحل؟ قلت له: أكمل، ارسم صمت عيني، لونهما كما تريد..
أعد رسم الأهداب المسهدة حولها كما تريد.. تخيل طفولة ابتسامة على شفاه حزني وصمتي.. ارسم كما تريد.. لكن احذر أن ترسم الدمع في بحيرة العيون.. لأني أتوق إلى رؤية مرآة تحتضن عيونا بلا دموع..
عاد الفنان العجوز إلى الصمت من جديد.. وإلى ارتعاشة أنامله من جديد.. ليكمل الرسم..
وما بين صمتي وصمته وصرصرة ريشته أكمل رسم الصورة.. قال الفنان: سيدي انتهيت من رسم صورتك أو ربما انتهيت من محاولة الرسم.. تعال انظر إليها.. لعل الحقيقة تعجب بالظل!
قلت له: وأنا أنظر إليها: رائعة، لف لي اللوحة لو سمحت. دفعت له قيمة الرسم، وعندما نظرت إليه شعرت أن نظرات عينيه قد تلونت بالشجن والحيرة.. لست أدري ربما هي ألفة (اللوحة والرسام).
فجأة.. أدخل هذا الفنان العجوز يده في جيب قميصه ليخرج (قطعة حلوى صغيرة ومنديلاً أبيض) وتبسم بلطف وقال: هذه هدية مني إليك أرجو أن تقبلها! أخذتها ونظرت إليه، ما تكلمت أبدًا، ولكني دهشت كثيرًا! أريد أن أفهم هذا اللغز الصعب (الحلوى والمنديل)
قال الفنان العجوز: (بني.. عندما كنت طفلاً صغيراً كانت تبكيك أشياؤك الصغيرة.. لم يكن لأحزانك ذاكرة بعد حتى دلالك يبكيك.. وكانت أمك من حولك كلما بكيت احتضنتك وأعطتك الحلوى لتذل مرارة البكاء بحلاوة الحلوى... وتعيد لك البهجة والسرور من جديد.. يا إلهي.. لقد كانت الدموع قبل الدموع!
لذا أعطيتك الحلوى.. لعل ذاكرة الطفل الكبير تغفو على وسادة طفولة الجرح وطفولة الحرمان. قلت له: رائع أنت.. مع فن الرسم فلسفة الإنسان فيك.
ولكن سيدي ماذا عن المنديل الأبيض ؟.. تبسم الفنان ثم قال لي: آه يا بني كم أشفق عليك لو أن ينبوع الألم والحزن الذي داخلك تفجر لوجدتني قد رسمت وجهك النهر.. تضاريس أعماقك تقف عند حدود أهداب عينيك..
خذ هذا المنديل الأبيض قد تحتاج إليه إذا ما اضطهدت جراحك وضجرك أعماقك.. وأمطرتك سحابة عجز الكبرياء.
ليكن المنديل مقبرة دمعك.. حين تبكي وحيدًا.. وحين تئن وحيدًا.. وحين تهذي بقصة أعماقك وحيدًا!
قلت له: (الحلوى والمنديل) لوحة أخرى رسمتها لي سوف أذكرك وأذكر روعة الإنسان الذي يسكنك..
ودعت هذا الفنان وأخذت اللوحة وغادرت المكان..
هنا في (برلين)
في ساحة (الكودام)
عبرت من الرصيف إلى الرصيف
وقد تساقط الظل على المدينة.. شعرت بأنني أمام بوابة الليل (الغروب بداية الرواية يشبه فصولها المظلمة الساحرة، الكل (ليل).. لكن مخاوف شريد الليل.. أن يكون آخر الرواية (ليل).. ليس كل شاعر وإنسان يعرف (الفجر)..
بوابة الليل.. عندما تفتح أمام إنسان محظوظ قد يعبر منها إلى الحلم السعيد..إن كان بيته من نهار..
دفء السرير الكبير
ضوء المصابيح والشموع
وامرأة العمر تتوسد يدها لتروي لك حكاية (قبل النوم) وتضع يدها الأخرى على جبينك وتعبث بشعر رأسك لتقول لك: إنها تحبك.. وإنها لن تسمح بصهيل جواد البعد أن يخيفك.. وأنها معك.. في بعيد أعماقك لا قسوة الشتاء تسكنك ولا الضياع!
تدثرك بلحاف الدفء.. تقول لك نكتة يصعب أن تكملها لأنكما تضحكان قبل أن تكتمل النكتة وتقال..!!!
آه.. يا لعمق مأساتي أنا
آه.. من بوابه ليل أعبرها
على جدرانها الموحشة كتب ممنوع دخول (ليت).. و(لعل).. و(عسى) بل وحتى (ربما).. لا!
ما أقسى ليل برلين.. عندما تكون وحيدًا.. ما بين ضجرك وألمك.. وألفتك وحنينك.. ألفة يسكنها الحنين.. تدمن رغيف الحرمان حتى تزيد نوبة الحرمان!
هنا في (برلين)
في ساحة (الكودام)
عبرت من الرصيف إلى الرصيف
شعرت بالتعب والإرهاق؛ لذا كان عليّ أن أجد مكانًا فيه أستريح.. نظرت إلى الركن المقابل حيث (المقهى) فعبرت الشارع إليه.. ووقفت أمام بوابة المقهى المزدحم.. تكاد تكون كل المقاعد مشغولة.
يتبع
* * *
ayamcan@hotmail.com