أكثر اللحظات حرجاً للشاعر عندما يُسأل: من أنت؟!
الشعر بفطرته ميال إلى التمدد خارج ذاته، والانسلاخ عنها، وتجاوز مقدرته، الشعر يشبه الثوري الذي من فرط حبه للثورة ما فتئ يثور وينقلب على نفسه، الشعر حي ومتحرك وسيَّال ولا يعترف بالحدود ولا يؤمن بالجغرافيا، أقدامه في باطن الأرض ورأسه فوق السحاب، الشعر هو الشعر، بكل شكه وثقته وجنونه وصبوته وتمرده وحكمته وسذاجته وعفويته وبدائيته و.. إذا كان هذا حال الشعر، فكيف يكون حال الشاعر؟ كيف يسعنا أن (نُعرِّف) ذاتاً بكل هذه التعددية؟
في أكثر حالات (البعض) يأساً عندما يُسأل الشاعر: من أنت؟ يجيب، بدبلوماسية كاذبة (أنا شاعر).. ولا يكون الأمر في هذه الحالة أحسن حالاً من أن يردد: أنا كهربائي أو بنّاء أو حتى صيدلي، فعوضاً عن كونه يحوِّل الشعر إلى مهنة، ويختصر حضور صاحبه في صفة واحدة، ويحصر حقيقة الإنسان فيما يفعله (والإنسان في نظري أكثر من ذلك بكثير) فهذا لا يمكن أن يكون حقيقياً في شيء؛ لأن الشاعر هو شاعر وشيء آخر.. شاعر وأكثر من ذلك، ومن الظلم أن تحد قدراته وإمكاناته في إطار الشعر وحده، كما أنه ليس من الحقيقة في شيء، لأي إنسان، أن يتلبس دور الشاعر طوال الوقت.. في أحد لقاءاته أصر الغائب محمود درويش على أنه لا يمكن أن يكون شاعراً لأربع وعشرين ساعة في اليوم، وسيكون محظوظاً فعلاً لو كان شاعراً لأربع وعشرين ساعة في السنة!
ماذا لو أطلقنا التساؤل على محيط أوسع؟ كيف بوسع المرء، شاعراً كان أم غيره، أن يُعرِّف ذاته للآخر، أو ينظر إلى ذاته بصفتها آخر؟ وهل يمكن ذلك أية حال؟ إن فطرة الذات الرافضة للتعريف والتنميط والتعليب تتعارض مع هوس السيطرة في العقول الساعية أبداً نحو تأطير كل شيء، وتحجيم كل شيء، وقتل كل شيء.. حتى تشوَّه الإنسان من فرط إحساسه بالحاجة إلى حصر حضوره، أو تسمية حضوره، في مضمار واحد..
أساءني تصرف شاعر يعتبر من (رموز) الحداثة في الشعر السعودي، عندما نشر مقالة طويلة عاتب فيها النادي الأدبي الذي استضافه للمشاركة في أمسية شعرية، على قلة المبلغ المادي الذي قُدِّم له في نهاية الأمسية كهدية (رمزية) واعتبر قلة المبلغ المادي إهانة له (كشاعر) وأخذ يعدد في مقالته أرقام مبالغ مالية لو أنه منح أحدها لكان راضياً ولو قليلاً!. لماذا صنف هذا الإنسان نفسه على هذا النحو، مثل جملة بضائع على أرفف السوبر ماركت؟ ألا يسعه أن يكون نفسه، ولو قليلاً، ويسعد بحقيقة أن الذات غير قابلة للحد؟
لا يستطيع الإنسان أن يحد ذاته، ومن الجهل أن يضع لها سقفاً أو نهاية.