رغم مضي سنوات طويلة على ذلك المشهد، إلا أنه لم يبرح مخيلتي كنت وقتها في مكتب لتسجيل المواليد بإحدى إدارات الأحوال المدنية.. دنار رجل ستيني من الموظف ذو النظارة السميكة وراح يهمس له بكلمات لم أستبن وقتها فحواها.. غير أنني عرفت فيما بعد أن الرجل كان يُعرّف الموظف المتعب باسم والدة المولود الجديد له، وضحكت غير أنني لم أستغرب الأمر.. ففي مجتمع كمجتمعنا تظل الثقافة الذكورية القائمة على اعتبار أن اسم المرأة من الأسرار الحربية التي ينبغي عدم إفشائها.. سمة لم تزل تعشعش في أذهان شريحة كبيرة من الناس بل إن البعض ممن يعيش على (راتب) ابنته أو زوجته لا يستحي أن يقول في مجلس مليء بالرجال:
(المرة، الله يعزكم)!
أنا أعرف أن هذا المستوى المتدني من الوعي لا يشمل الكل.. ولكنه موجود بيننا، وأكاد أقول ومن متعلمين يفترض فيهم أن يفتخروا ببناتهم أو زوجاتهم، خاصة وقد أثبتت الفتاة - على المستوى العائلي - أنها أكثر تشريفاً لوالدها وللأسرة من الابن الذكر، وأكثر نجاحاً وتحصيلاً علمياً.
لن أدخل في جدلية أن اسم المرأة لا ينتقص من قدرها ولا يقلل من قيمتها، فكلنا نعرف أسماء نساء الرسول صلى الله عليه وسلم، ونساء الخلفاء، وتاريخنا الإسلامي يحفل بماجدات خالدات من النساء بل إن امرأة كالسيدة (زبيدة) تتساوى مع زوجها هارون الرشيد في الشهرة، وتبزه في أعمال الخير وما (عين زبيدة) بغائبة عن ذاكرتنا.
أحدثكم، وأنا غير مبرأ من هذه الثقافة الذكورية.. ففي داخلي صورة مراهقة لمعركة دارت بيني وبين أحد الزملاء في المرحلة المتوسطة لا لشيء إلا لأنه تجرأ فذكر اسم والدتي دونما زيادة أو نقصان. وكم من المعارك نشبت لهذا السبب! ومن العجيب أن الجيل الجديد لا يكاد يختلف عن القديم فقد جاء طالب إلى مكتبي العام الماضي وهو يزمجر ويهدد ويتوعد، ويطلب معاقبة أحد زملائه الذي قال له: (يا ولد فلانة)!
قلت للطالب الغاضب: أليست (فلانة) هي أمك؟ قال بلى، ولكن لماذا يذكر اسم أمي! مخجل أن ندلف الألفية الثانية ولدينا من يفكر بهذا المنطق السخيف.
لديّ إحساس متنام أن الآباء الذين يفتخرون ببناتهم.. هم أناس متحضرون وذو شخصيات قوية ينبغي ألاّ نخجل.. أن نعترف ببعض أخطائنا الصغيرة، وعلينا التصدي لها ومحاربتها فكم من الأسر تأكل خبزها اليومي، وتجابه ذل السؤال والفاقة من (راتب) ابنتها. نعرف قصوراً شامخة وفللاً فاخرة.. تزين مخارجها بالورود وفي داخلها تتعرض المرأة لكل أنواع المذلة وهدر الكرامة والعنف. ألا يحق لنا أن ننتصر لهذه الإنسانة التي عن طريقها خرجنا للحياة، وتعلمنا من حضنها أبجديات الحب والحنان والتسامح. أليس من حقها علينا أن نعترف على الأقل بجزء صغير من تضحياتها الكبيرة!!
alassery@hotmail.com