حوار - محمد بن عبد العزيز الفيصل
هدوء وتريث وحكمة.. بهذه السمات سيوصف عبدالله مناع عند الالتقاء به لأول وهلة؛ وبعدها سيكشف الحديث معه عن ثقافات ومعارف متعددة تزخر بها هذه الشخصية المتفردة في تنوعها؛ تملكتني الحيرة كثيراً عند لقائي الأستاذ الدكتور عبدالله مناع !!
فهل أنا أمام عبد الله مناع الصحفي؟ أم الطبيب؟ أم المثقف الثنائي؟!.. أسئلة.. وأسئلة سوف تدور بخلد كل من سيلتقي هذا الرجل العريق.. وحرت أيضاً: من أي الجوانب سأبدأ ؟ ومن أي الزوايا سأشرع..؟ إن دماثته تغريك بالمزيد من الحديث و الحوار.. كما أن استرساله العذب لا يسمح للمتلقي إلا بالإنصات والإبحار في بيان كلماته.
في حارتي البحر والشام وما بينهما بجدة ترعرع عاشق الأدب.. ليتشكل العقدان الأول والثاني من عمره في تلكما الحارتين بكل مكنوناتهما.. من الأزقة والبِرح والأسواق والمقاهي؛ فهذه الذكريات بحُلوها ومُرِّها قد حُفِرت بيد نحات ماهر داخل ذاكرته؛ فهي تشكل (جغرافيته الوجدانية)..
من يطلع على سيرة د. مناع فسوف يجد نفسه محاطاً بالعديد من الأحداث والشخصيات التي تتزاحم لترسم خطوات مسيرة هذا الرجل، ولعل كتابه (بعض الأيام.. بعض الليالي) يعطينا قدراً جزيلاً منها.
* ولدتم بحارة البحر بجدة عام 1359هـ.. حدثنا عمّا علق بذاكرتكم من تلك الأيام مما لم تفصحوا عنه في (بعض الأيام بعض الليالي)؟
- الثمانية عشر عاماً الأولى من حياتي في جدة: بين حارتي (البحر) و(الشام) وما بينهما.. محفورة ب (أزميل) نحَّات على جدار القلب والعقل أو (رخامة) أو (جرانيتة) إن شئت، فهي ليست شيئاً يعلق ب(الذاكرة).. ثم يتساقط منها بمرور الأيام والسنين، أو يبهت.. ب(رياح) العمر والزمن، فهي.. ب(ناسها) وحياتها وشوارعها وأسواقها وأزقتها وبرحاتها من (برحة أبو داود) في حارة البحر إلى (برحة الأيلشي) في حارة الشام، إلى (برحة الكدوة) في حارة المظلوم، إلى (برحة العيدروس).. في حارة اليمن، إلى (زقاق الخنجي) الشهير بأسطورة (الدجيرة) والذي يبلغ طوله عشرين متراً.. بينما عرضه لا يتجاوز المتر الواحد. وهي.. ببيوتها ورواشينها ومقاعدها وبرزاتها ومقاهيها: من (قهوة اليماني) و(الكحيلي).. في حارة البحر، إلى قهوة (علي زكي).. في أول حارة اليمن، إلى (قهوة الفتيني) و(الدكة).. في حارة الشام، إلى (قهوة السقاف) في (سوق العلوي)، وهي.. بمساجدها الكبرى من (عكاش) إلى (الباشا) إلى (الحنفي) إلى (المعمار) إلى (الشافعي).. تشكل بمجموعها جغرافيتي الوجدانية، وأرضيتي العقلية التي تراكمت عليها كثير من المباني والمعاني والأفكار.. فيما بعد.
هذا جانب..
أما ما لم أفصح عنه في (بعض الأيام.. بعض الليالي).. فهو كثير. بعضه هام.. كعلاقاتي الحميمية والجدلية في آن مع كثير من الأمراء الفاعلين، وبعضه (قيم) وربما حساس كلقائي بأحد زعامات الاشتراكية الدولية.. رئيس وزراء النمسا (برونو كرايسكي) في منزله بالعاصمة النمساوية: (فيينا).. في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، أو لقائي.. ببطل الاستقلال الصومالي وزعيمه الاشتراكي (سياد بري)، الذي أطيح به في مطلع التسعينات الماضية.. فلم تقم للصومال قائمة إلى يومنا هذا، وبعضه عادي.. يقع في قلب ذكرياتي الجميلة عن تلك الأيام.. عندما فاجأني زميلي وصديقي الحبيب فايز بدر.. بعد ثلاث أو أربع سنوات من عودتنا من (البعثة).. بخطاب قبول لي من جامعة (بنسلفانيا) الأمريكية لتحضير درجتي (الماجستير) و(الدكتوراه) في طب الأسنان، وكان قد اُبتُعث إليها من قبل لتحضير درجتي الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد والتجارة.. فلم أتحمس ولم أذهب، فقد كنت آنذاك كاتباً مرموقاً بين كتاب الشباب، وعضواً محورياً في مؤسسة البلاد للصحافة (سكرتير لجنة الإشراف على التحرير).. وعضواً منتدباً لإدارة المديرية العامة للشؤون الصحية بالطائف، على أن الأهم في أسباب انصرافي عن البعثة لأمريكا.. أنني كنت قد تلقيت تدريباً مهنياً عالياً في سنة الامتياز بمستشفى جامعة الإسكندرية على يد أستاذ جراحة الفكين الأستاذ الدكتور يوسف رضوان الحق.. مما أعطاني شعوراً بعدم الحاجة إلى المزيد خاصة وأن الصحافة قد بدأت تستحوذ عليّ وتحتويني. وعاد (فايز) فيما بعد.. أو الدكتور فايز، وأصبح وكيلاً لوزارة التخطيط.. فوزير دولة لشؤون الموانئ، لينجز فيها إنجازاته التي لم تنس والتي قد لا تتكرر.. ومن بينها (فنار) ميناء جدة الرائع والجميل والباقي حتى الآن، والذي كلما مررت به تذكرت الدكتور فايز وتحدي له في بناء هذا الفنار الصعب والمكلف، وانتصاره عليّ.. فأبكيه وأترحم عليه.
* أي الألقاب أقرب إلى قلبك الطبيب أم الصحفي؟
- لا الأول.. ولا الثاني، ولكن الأقرب إلى نفسي.. هو (الكاتب الصحفي) الذي ربما يعبر بموضوعية عن ماهيتي فيما أحسب.
* نشرتم تجربتكم الكتابية الأولى بصحيفة البلاد عندما كنتم على مقاعد الدراسة طالباً بالصف الأول الثانوي.. ما هو أثر هذه التجربة على مشواركم الصحفي؟
- كان أثرها.. أكبر من أن يُحسب، إذ إنني عندما رأيت أحد تلك المقالات (أو الشخبطات) على الصفحة الأخيرة.. كاد صوابي أن يطير، بينما أظن أنهم نشروا المقال في ذلك الموقع.. لعدم وجود مادة صحفية لديهم لملئه.. وليس تقديراً ل(كاتبه) أو عظمة ما جاء فيه..!!
* خلال إحدى حواراتكم الصحفية ذكرتم ما نصه: (خرجت من مشواري الصحفي كاسباً للناس غير راضٍ عن نفسي..) لماذا؟
- كسبت رضا الناس ربما ب(اقترابي) من التعبير عنهم.. وربما ب(محبتي) الصادقة لهم.. وربما بشجاعتي أو جرأتي.. في بعض ما أكتبه..!! ولم أرض عن نفسي لأنه كان يتملكني شعور ممض دائم بأنني أستطيع أن أفعل.. ما هو أفضل مما فعلت.
* حدثنا عن تجربتكم الصحفية في مجلة اقرأ؟
- مجلة اقرأ.. كانت (مشروعي) الذي أعطيته أفضل ما لدي.. وإن صدمتني أعدادها الخمس الأول، لكن الصدمة.. سرعان ما تحولت إلى فتيل من الحماس، يشتعل في صدورنا لتستقر نفوسنا جميعاً - زملائي وأنا - مع عددها الحادي عشر.. وقد أصبحت لدينا في المملكة - وربما لأول مرة إذا استبعدنا مجلتي (صرخة العرب) و(الرياض) اللتين أصدرهما الكاتب الصحفي العملاق السيد أحمد عبيد من القاهرة وليس من جدة أو الرياض - مجلة عربية سياسية ثقافية اجتماعية.. تتابع الحدث السياسي العربي حيثما كان.. ب(نقله) وتحليله ونقده وفضحه وهو ما جر على (المجلة) الكثير من المتاعب فيما بعد.
كانت المجلة.. مجلة (ملاليم) في بدايتها لا مجلة (ملايين)، تقيم في غرفتين من مبنى المؤسسة بعمارة باخشب وغرفة وحيدة في مطابع الأصفهاني، وتقوم على (وكالتين) إحداهما في بيروت هي (أورينت برس) للتغطيات السياسية والثقافية والاجتماعية.. عربياً، وأخرى في لندن هي (رويترز) لتقديم خدمة الصور الفوتوغرافية الحديثة.. إلى جانب مراسل في واشنطن وآخر في لندن وثالث في القاهرة ورابع - فيما بعد - في صنعاء.. إلى جانب أسرة تحرير المجلة في مقرها الرئيسي والمكونة من اثني عشرة شخصاً بينهم رئيس التحرير وسكرتيره الإداري وساعي المجلة وفراشها. لكن المجلة.. اعتمدت ومنذ عددها الأول على كوكبة من أفضل الكتاب وأقدرهم وأكثرهم شجاعة واستقامة.. من أمثال (مع حفظ الألقاب): عبدالله الجابري، وعزيز ضياء، ومحمد عمر توفيق، ورضا لاري، ود. غازي القصيبي، وإياد مدني، ومحمد حسين زيدان وعبدالله جفري.. إلى جانب عدد من الكتاب العرب الكبار من أمثال: المناضل أحمد حسين والأستاذ فتحي رضوان والأديب فتحي غانم، بل كان محررو المجلة - هم.. أنفسهم - كتاباً مبدعين من أمثال عبدالله سعيد الغامدي وعبدالله باخشوين ود. عبدالواحد الحميد وفهد الخليوي وجارالله الحميد وعبدالله باهيثم.. ومعظمهم ترأس القسم الثقافي بالمجلة عبر سنوات ترؤسي لتحريرها التي تقطَّعت ثلاث مرات.. كان آخرها عام 1408هـ.
كان الفضل الأول في إصدار المجلة من داخل المؤسسة.. يعود لمدير عام المؤسسة - آنذاك - معالي السيد عبدالله الدباغ - شفاه الله -، ولأعضاء لجنة الإشراف على التحرير المكونة من الأساتذة محمد فدا، وعبدالله السعد، وعبداللطيف جمجوم وشيخ الصحافة الأستاذ عبدالوهاب آشي.. ولشجاعة وحماسة مدير إدارة المؤسسة الأستاذ السيد يس طه: القاص والكاتب الذي اعتزل الكتابة بعد مقاله المدوي (معانا ريال.. والميزانية الجديدة).. الذي أبرم اتفاقاً مع مطابع الأصفهاني على طباعة المجلة دون أن تُعتمد لها ميزانية خاصة.
أما من خارج المؤسسة.. فإن الفضل يعود في الموافقة على إصدار المجلة وعلى ترؤسي لتحريرها.. لمعالي الأستاذ إبراهيم العنقري وزير الإعلام آنذاك - رحمه الله -، الذي أعطانا موافقة الوزارة.. واستحضر لنا موافقة المقام السامي على ترؤسي لتحريرها أيام الملك فيصل - يرحمه الله -، الذي مات بعد صدورها بأربعة أشهر.. لتكون جنازته هي غلاف العدد السادس عشر من أعداد المجلة.
* يصفكم بعض المثقفين والنقاد ب(المصادم) والبعض الآخر ب(المشاكس).. فهل لكم منها نصيب؟
- لست مصادماً.. ولا مشاكساً ولكنني ربما كنت مختلفاً عن السائد والمألوف.
* متى سنرى (بقية الأيام بقية الليالي)؟
- ربما بعد عامين.. وربما بعد عشر سنوات أو ما حولها. إذا قررت أن أتحدث عن كل ما كان في تلك الأيام والليالي.
* كيف هي صلتكم بالتراث؟
- علاقتي بالتراث.. (نثراً) لم تواكب بداياتي كاتباً، ولكن علاقتي به (شعراً).. بدأت مبكرة مع بحثي عن (المعلقات) السبع أو العشر.. إلى أن وجدتها في كتاب الأغاني ل(أبي الفرج الأصفهاني). أحد أبرز وأهم وأمتع كتب التراث الثقافية الأدبية التاريخية والاجتماعية.. لأجد أن الخلاف لم يحسم حول تلك (المعلقات).. إن كانت عشراً أم سبعاً، لكنني وجدت الإجماع فيه.. على أن أولها هي معلقة امرئ القيس، وثانيتها هي معلقة طرفة، وثالثتها.. هي معلقة (زهير)، لأصبح عاشقاً لتلك المعلقات.. فخوراً بها وبعظمة وروعة معانيها وقيمها الفكرية والإنسانية والأخلاقية، وإلى الحد.. الذي كان يجعلني أردد أمام كثير ممن كنت ألقاهم في الثمانينات من القرن الماضي خارج الوطن.. بأن وثيقتنا التاريخية (الأولى) التي يمكن أن نقدمها لعالمنا المعاصر بأننا أمة ذات فكر وحضارة.. هي في هذا الشعر الجاهلي ومعلقاته السبع أو العشر في جوف الكعبة قبل البعثة المحمدية.
ثم كان من حسن حظي في تلك الفترة.. أن أهداني الأديب الكبير الأستاذ عزيز ضياء كتاب (مروج الذهب) للمسعودي بأجزائه الأربعة، وهو بحق موسوعة تاريخية إنسانية شاملة مذهلة يمتد زمانها إلى عام 947م.. بقلم وفكر عربي، أطلق المؤرخون الأوروبيون على مؤلفه (أبو الحسن علي بن الحسين بن علي) لقب (هيرودوت العرب)، ليكفياني الكتابان ثقافياً وأدبياً من جانب.. واجتماعياً وسياسياً من الجانب الآخر.
على أن كتاب الدكتور طه حسين.. الذي كتبه في النصف الأول من القرن العشرين (الفتنة الكبرى.. بجزئية) كمؤرخ محايد متأمل.. شكل بالنسبة لي عند عثوري عليه في أوائل الستينات كتاباً تراثياً في موضوعه التاريخي المفصلي في حياة الأمة والدولة الإسلامية.
ثم أُضيف إلى ذلك كتابا (المقابسات) لأبي حيان التوحيدي.. و(نهج البلاغة) للإمام علي بن أبي طالب الذي جمعه الشاعر الفذ (الشريف الرضي).. ف(شرح ديوان المتنبي) فيما بعد الستينات.
لقد اتصلت بهذا (التراث) تباعاً.. بعد تخرجي من الجامعة وليس قبل ذلك، ومع ذلك استقر في يقيني.. بأنه ليس أمام الطامحين من الكتاب إلى ذرى الإبداع إلا المرور على هذه البحار.. أو الغوص في مناجم هذه الكنوز لتتحقق ذواتهم الإبداعية المتفردة فيما يكتبون.. وأياً كان الموضوع الذي يكتبون فيه.
يتبع