والراصد للمحطات التاريخية يجد أنها قد لا تجود بولادة دولة سوية بأسرع وقت، وأقل خسارة، مثلما أنجزه الملك عبدالعزيز في وقت قياسي. لقد كان ذكياً ومجرباً حين وضع حداً فاصلاً بين روح التكوين وروح البناء.
وهذه العبقرية الفذة التي حتَّمت الفصل بين ظرفين أعقبتها عبقرية أخرى جعلت من لحظة الفصل يوماً وطنياً يذكرنا بالسلم لا بالحرب وبالبناء لا بالتكوين.
على أن عودة الملك عبدالعزيز من منفاه الاضطراري لاستعادة حقه المشروع لا توصف بالحرب الأهلية ولا بالثورة الدموية، فهو قد قصد الحامية في (الرياض) بأقل عدد وعدة، ولم يغزُ (الرياض) بوصفها عاصمة مسلوبة الإرادة، وساعة الحسم لم تتجاوز أسوار (المصمك) وتلك سمة لا تحسب من مفردات الحرب الأهلية ولا الثورة الدموية وحين بدأ معركة التكوين أصبح لكل منطقة حساباتُها الإقليمية والقبلية غير المسنودة وغير المبررة. ومن ثم أصبحت من الهشاشة بحيثُ لا تملكُ أدنى حدٍ من المقاومة فضلاً عن الصمود، ومعركة التكوين وإن امتدت ثلاثة عقود ونيفًا، فإنها مدة تتضاءل أمام الأعماق الجغرافية التي جابها الفاتح على صهوات الخيل وظهور الجمال، وأمام حسابات الربح والخسائر لدى المجاورين والمناوئين. فالملك عبدالعزيز يحمل فيما يحمل من (الأجِنْدة): الوحدة المتسامية على الإقليمية والقبلية والمدنية الآخذة من العلم والحضارة العالمية ما يعزز الجانب. والسلفية المستنيرة تهافتت وفود الدول الكبرى لمعرفة نصيبها من هذه الغنائم، وأمام هذه المتغيرات الإقليمية استطاع بذكائه وحكمته تحييد الجميع بحيث لا يكونون خصوما يتكاتفون لإجهاض مشروعه ولا يكون تبعيا ليس له من الأمر شيء، وحفظ التوازن مكَّنه من إتاحة مساحات مشتركة للاتفاقات والمعاهدات التي تخوله من التخطي إلى المحافل الدولية، ولم تستحوذ هذه المعاهدات على مشروعه الوحدوي الإسلامي الذي أثار انتباه العالم وفرض عليه احترامه وإشراكه في القرارات المصيرية، وحتى الذين ندبتهم الدول الكبرى لاستمالته وجمع المعلومات عن أهدافه وسياسته استطاع تحييدهم واحتواءهم وتوظيف خبراتهم لصالح بلاده.
والذين كتبوا عنه من رحَّالة ومسْتشرقين ومناديب بهرتهم شخصيته الجذابة ودبلوماسيته المرنة، وشهدوا له بالتألق والتفوق، حتى لقد تحولت أطماع الدول إلى صداقات وتبادل مصالح، وتكافؤ فرص، ومشاركة في التنمية، ومن ثم لم تتعرض البلاد لمؤامرات دولية ولا لتمرد داخلي؛ لأنه لم يتح لأي طرف أن يمتلك أوراقًا مؤثرة، وفوق ذلك كان -رحمه الله- ذكياً في صناعة الرأي العام وكسب وده وولائه، إذ لم يكن مستبداً ولا عنيفاً ولا فردياً في اتخاذ القرار، ومن ثم كسب الجبهة الداخلية ووجه كل إمكانياته للجبهات الخارجية التي وجدت فيه صديقاً ملتزماً بالعهود والمواثيق جاداً في اتخاذ القرارات المصيرية.
ودراسة الشخصيات الفاعلة لا تقف حيث الاستنكاه المعرفي ولكنها تتجاوز ذلك إلى ترجمة المعرفة إلى عمل محسوب الخطوات. وأداء الملك عبدالعزيز نتج عنه قيام الوحدة ونشوء الدولة معاً إذ لم يلملم أطراف البلاد على شاكلة من سبقه دون رؤية حضارية.
كما أن الرؤية لم تكن صدامية ولا ملغية لخصوصية الأطراف المستهدفين. وتلك مؤشرات التميز في المشروع الذي أحسن الدخول في المعمعة وأحسن التدبير فيها. وحين نقف على نتيجتين حضاريتين تعدَّان من المكتسبات المهمة، تكون الخطوة الأولى الواجب اتخاذها صيانة المنجز وحمايته من أي اعتداء خارجي أو تفريط داخلي.
وخطورة الغزو من الداخل المعروفة في المصطلحات السياسية ب(الطابور الخامس) لا تقتصر على المواجهة المعلنة ولا على العمل لصالح الآخر، ولكنها تكون -إضافة إلى ذلك- في تفكيك الوحدة الفكرية عبر خطابين متطرفين؛ -خطابٍ انهزامي أمام طوفان التغريب، وخطابٍ انعزالي هروبي، وكل خطاب لا يعي مهمته في الحياة ومكانه في سلم الإمكانيات يكون على حساب مصلحة الوطن، وأي خطاب لا يشاطر المؤسسات الوطنية مهماتها بإمكانيات كسبية وذاتية يشل الحركة ويجهض مشروع الأمة الذي أنجزه الملك عبدالعزيز.
ولسنا بحاجة إلى أدلة وثائقية لإثبات اختلاط الأصوات وتفاوتها، ما دمنا نشاهد نفاذ الخطاب المناوئ وضعف الخطاب المساند، فلقد أشار وزير الداخلية إلى ضعف الخطاب المساند، مشيراً إلى أكثر من خمسة آلاف خطبة جمعة تُضَخُّ كل عام، ثم لا يكون لها الأثر الفاعل، فيما نرى ونسمع اهتمام الخطباء والدعاة بالقضايا الأممية والتفاعل والانفعال مع أي حدث قد لا يكون بمستوى أحداث محلية لا تكون حاضرة في الخطابة ولا في الدعوة، وذلك مؤشر ضعف الوعي بالمهمة الوطنية التي هي جزء من المهمة الدينية.
وعيب مؤسساتنا الدعوية والتربوية شيوع الاتكالية واستفحال الحس الأممي على حساب الحس الوطني، وكل زائد عن حده منقلبٌ إلى ضده، فحين لا ننكر جسدية الأمة الإسلامية وتداعيها لكل ألم لا ننكر أن الأقربين أولى بالمعروف، وأن تحقيق المشاطرة الإيجابية لا تكون إلا من المؤمن القوي. وواجبنا أن نقوي أنفسنا بالرعاية الواعية للوحدة الإقليمية والفكرية ومحققات الدولة الحضارية، ولن يتحقق ذلك إلا إذا أحسسنا بأهمية أدوارنا جماعات وأفرادا، ولقد وجَّه الناصح لأمته -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك بقوله: (كلكم راع وكلكم مسْؤول عن رعيته) وكل مسلم على ثغر من ثغور الأمة، وإذا أتيت الأمة من ثغره كان مفرطاً في حقها.
إن الدور الرائد للأستاذ في قاعته والمدرس في فصله والخطيب في مسجده، والإعلامي في وسيلته الإعلامية ومن وراء هؤلاء العلماء والمفكرون، ومن بطأ به عمله لم يسرع به تعليله.
فلنكن في مستوى مسؤولياتنا وفي مستوى الأحداث المتلاحقة، وحق المؤسس ورجاله على الأبناء والأحفاد أن يكونوا خير خلف لخير سلف.
وإن لم نفعل تفلتت النعم من بين أيدينا كما تتفلت الإبل من عقلها.