تشكل حرية الرأي الملتزمة بالمسؤولية حجر الأساس في أي بناء تنموي في التاريخ، ومنذ بدأ قائد المسيرة التنمية التاريخية الملك عبدالله -حفظه الله- إرساء مشاريعه الحيوية قدم مثالاً رائعاً في تقبل الرأي الآخر، وعبّر في أكثر من مناسبة عن احترامه للنقد الملتزم بالمصلحة العامة، وفسح المجال لحرية الرأي، وأرسى ثقافة الحوار، ولم يحاول على الإطلاق التأثير على من يخالفونه الرأي، بل أكاد أجزم أن مصطلح الرأي والرأي الآخر أصبح بمثابة الشعار الوطني في زمن القائد التاريخي، وخير مثال على ذلك قراره التاريخي في مشروع توسعة المسعى، والذي خالفه فيه علماء واتفق معه آخرون، ومع ذلك لم يؤثر على إيمانه بتنفيذ المشروع، وتلقى الاختلاف في الرأي بصدر رحب، وتم تنفيذ المشروع، وكان نجاحه بمثابة النقلة التاريخية في مشروع توسعة الحرم، وكان نفعه عظيماً على الحجاج والمعتمرين.
كذلك حمل حفظه الله راية تأسيس جامعة الملك عبدالله على أرض الوطن برغم من وجود مواقف متباينة من إنشائها، وتكمن جرأة القرار الشجاع في جعلها بمثابة النقلة التاريخية في منهج البحث العلمي الذي تصب اهتماماته على مصالح الوطن، وأن تماثل في نقلتها الحضارية مرحلة تأسيس شركة أرامكو قبل عقود، وهو إنجاز يُحسب لزمن عبدالله بن عبدالعزيز -أطال الله في عمره-.. وسيحكم التاريخ على نتائج تأسيس الجامعة العملاقة كما حكم في السابق بالنجاح الباهر على قرار تأسيس شركة أرامكو القديم، وفي الحاضر على قرار مشروع توسعة المسعى الحديث.
هذا الزمن يحتاج إلى قائد يغيّر الواقع في اتجاه المستقبل الذي لا يفرط في الثوابت، لكن لا يتوقف عن تجاوز الحواجز التي قد تشكل إعاقة لمسيرة التنمية الوطنية، وما يقدمه حفظ الله من نموذج هو بمثابة الرد على أولئك الذي لم نعد نفهم ماذا يريدون، فتارة تجدهم يلبسون طاقية الإخفاء تحت مظلة الثقافة والرأي والرأي الآخر، وفي تارة أخرى ينقلبون إلى جامدين تقليديين ومؤمنين بوجوب النصيحة السرية في عصر الإنترنت وتقنية النانو، بينما قائد المسيرة تجاوز ذلك الأمر في أكثر من مناسبة، وقاد التغيير في أكثر من مشروع عملاق برغم من وجود مجتهدين يختلفون معه في الرأي، كما تجاوزه أيضاً عصر تقنية المعلومات والإعلام والنشر إذ لم يعد بالإمكان حصر الرأي والرأي الآخر في القنوات السرية، وهذا يعد أهم إنجاز تم تحقيقه على أرض الوطن، فالتعبير عن الرأي بدون تشنج واحتقان هو ما نود التعايش معه في عصر النقلة التاريخية.
إنها حركة التاريخ الصاعدة، والتي بالتأكيد تحتاج إلى قائد تاريخي، يعبر بالوطن من حالة الجمود إلى الالتحاق بدورات الزمن الصاعد إلى حيث العالم الأول، ولن يحدث ذلك بدون التخلي عن ثقافة التحريض، فما يحدث من محاولات لقمع الآخر من قبل مختلف اتجاهات الرأي هو عائق تنموي، ويجب أن نتعلم من قائد المسيرة أن لا ننفعل إذا عبر أيّ كان عن رأيه، وأن نتحاور من خلال ثقافة الغد، وليس من خلال اجترار أفكار لم تعد صالحة أو مقبولة من مجتهد ديني فما بالك بمثقف أو داعية للتحديث.
لأننا نعيش في زمن مختلف يجب أن نتعلم أولاً احترام الرأي الآخر، والتوقف عن محاولات إسكات الآخرين، وأن ندرك أن أساليب التحريض والاحتقار والتهميش بيئة خصبة للعنف والإقصاء والتكفير، ولردة الفعل، وأننا بمختلف مشاربنا علينا أن نعي مدى أهمية النقلة التنموية الحالية، وأن لا نقرع الطبول عندما نسمع رأياً مخالفاً، فالجميع هم أبناء هذا الوطن، وليس من المفترض أن توجد فروقات بينهم في معادلة الحقوق والواجبات.
من خلال نافذة حرية الرأي أيضاً أرى أن الخوض في القضايا الخلافية يحتاج أيضاً إلى إلباسه ثوب الرأي والرؤية العلمية، وليس تقديمه بديباجة الفتوى الشرعية والقول الفصل فقط، لأن تقديم موقف الحكم الشرعي في مثل هذه القضايا بصورة فردية غالباً ما يؤخذ بحدة في المجتمعات العربية والإسلامية، لأنه قد يُفهم منه على أنه كلمة الله وحكمه الشرعي على الأرض، بينما توجد اجتهادات أخرى تخالفه، ولديها أدلتها من النصوص الشرعية على غير ذلك الحكم، لذلك من المفترض تأسيس قاعدة جديدة مفهومها أن الاختلاف أمر محمود، وذلك لأن المجتمع يفتقد إلى بنية جواز الاختلاف في الاجتهاد الديني.
سيظل الصلاح سمة ذاتية وحصانة تبنيها التربية، وتحميها البيئة المحيطة بالإنسان ضد الفساد في المجتمع، ولا يمكن لأي قانون أن يصلح الفاسد ذاتياً، ولكن يجب أن يلزمه بالامتثال للقانون والشرع والأخلاق الحميدة، وعدم الاعتداء على الآخرين في الأسواق أو المستشفيات أو غيرهما من الأماكن التي قد يختلط فيها البشر من الجنسين.. كذلك سيظل هذا الوطن حبيس الماضي ما لم تتوفر بيئة ثقافية منسجمة مع حركة التاريخ الصاعدة التي يقودها أبو متعب -أطال الله في عمره-.