بعد سنوات من النمو السريع كانت بلدان أوروبا الشرقية بصورة خاصة الأشد تضرراً من جراء الأزمة المالية العالمية. ولقد احتاجت بعض هذه البلدان مليارات الدولارات من الدعم الدولي. وحتى تلك البلدان التي كانت أفضل استعداداً تعرضت بصورة مؤلمة لتأثيرات ما بعد الأزمة؛ حيث انهارت أسواق التصدير، وهبطت أسعار السلع الأساسية، وأُصيبت أسواق الائتمان بالشلل.
وفي العديد من بلدان العالم هبط الناتج الاقتصادي على نحو مفاجئ وحاد، وبصورة أسوأ مما حدث في غرب أوروبا. ويبدو أن هذا الانحدار قد توقَّف الآن، وتشير أحدث البيانات إلى أن الهبوط ربما بلغ منتهاه.
ورغم ذلك فمن السابق للأوان أن نعلن انتهاء الأزمة؛ وذلك لأن قدراً كبيراً من التأثيرات والعواقب المترتبة على الأزمة لم نستشعره بعد. ويتعين علينا الآن أن نتعامل مع الزيادة الضخمة في حالات الإفلاس، وكذلك أسواق الائتمان المتدهورة ومستويات البطالة المرتفعة. وهذا بدوره من شأنه أن يشكِّل عبئاً على الميزانيات الوطنية والأنظمة المصرفية، وتحدياً للساسة في مختلف أنحاء المنطقة. ولقد أُرغِمَت بعض البلدان بالفعل على تخفيضات جذرية في الميزانيات؛ الأمر الذي كان بمثابة ضربة قاضية لمستويات المعيشة.
ويتعين علينا أن نضيف المشاكل البنيوية إلى هذا المزيج، المشاكل التي لم نتعامل معها منذ اندلاع الأزمة. وبالنسبة إلى أوروبا الشرقية فإن هذا يتلخص في أربع مناطق رئيسية: (1) الإفراط في الاعتماد على الموارد الطبيعية. (2) الخلل في توازن الصادرات. (3) تضاؤل حجم أسواق رأس المال وعدم كفايتها. (4) عدم كفاءة الإنتاج واستخدام الطاقة.لكن فترة الاثني عشر شهراً الماضية سلَّطت الضوء أيضاً على مواطن القوة في أوروبا الشرقية؛ فبعد مرور عشرين عاماً منذ سقوط الستار الحديدي أصبحت بلدان الشرق أكثر اندماجاً في الأسواق الدولية مقارنة بأي وقت مضى. ولقد أدى ذلك إلى النمو القوى في أوقات الرواج، غير أنه في أوقات الأزمات أسفر عن تأثيرات سلبية، رغم أن ذلك الاندماج حال دون انهيار العملة أو شطب الديون الوطنية، وهو ما شهدناه أثناء الأزمات السابقة التي ضربت الأسواق الناشئة.
ولقد سارع صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وغيرهما من المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير والبنك المركزي الأوروبي، والمفوضية الأوروبية، إلى العمل معاً في محاولة لإعادة الاستقرار. كما حملت مجموعة العشرين لواء الريادة على المستوى الدولي. والواقع أن التعاون والتنسيق على ذلك النحو وبهذا المستوى كان أمراً بعيد المنال أثناء الأزمات المالية السابقة.
وهناك أيضاً فارق ملموس آخر بين الأزمة الحالية والأزمات المالية السابقة التي شهدتها الأسواق الناشئة، وهو أن الاستثمارات في منطقة البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير - أوروبا الشرقية، وجنوب أوروبا، وتركيا، وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة - كانت طويلة الأمد، ولم يغلب عليها طابع المضاربة. فقد أدرك رجال الأعمال والمستثمرون الغربيون على نحو متزايد أن شرق أوروبا يشكِّل جزءاً من سوق داخلية؛ الأمر الذي جعلهم يتعاملون مع هذه المنطقة من منظور بعيد الأمد. ولقد أسهم ذلك بدوره في إعادة الاستقرار الذي كانت المنطقة في مسيس الحاجة إليه.
إنَّ صحة وسلامة القطاع المالي والمصرفي أمر على قدر عظيم من الأهمية في جلب الاستقرار. ولقد نجح التعاون الدولي في منع البنوك التي تتخذ من غرب أوروبا مقراً لها وتمد شبكة واسعة من الفروع في أوروبا الشرقية من الانسحاب من المنطقة. غير أن بعض المشاكل الخطيرة ظلت قائمة. إن عدم الرغبة في الإقراض، فضلاً عن ارتفاع تكاليف القروض بالعملات الأجنبية، من الأمور التي تشكِّل عبئاً حقيقياً على الميزانيات العمومية في بلدان شرق أوروبا؛ ولهذا السبب أصبح من الصعب للغاية بالنسبة إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة الحصول على قروض جديدة لإعادة تمويل قروضها القائمة.
لقد عاصر البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير التغير الذي طرأ على ظروف السوق أولاً بأول. ولقد نفذنا برنامجاً مضاداً للأزمات ركَّز على القطاع المالي، والاقتصاد الحقيقي، والاستثمارات ذات الأهمية الخاصة بالبنية الأساسية، وخاصة في مجال كفاءة الطاقة الذي يشكِّل أهمية حيوية. ولقد أصبح الطلب على قروضنا ومشاريع التمويل التي نقدمها أعلى من أي وقت مضى؛ ففي الأشهر التسعة الأولى من عام 2009 استثمرنا أكثر من 6 مليارات يورو، أي ضعف استثماراتنا في نفس الفترة من العام الماضي.
ولكن البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير لا يكتفي بتقديم القروض؛ ذلك أن استثماراتنا تهدف إلى تنمية ودعم اقتصاد السوق في مختلف أنحاء المنطقة. ونحن نعمل بالتعاون مع القطاع الخاص ولا ننافسه، كما نحرص على تعبئة التمويل الخاص من أجل المنافع العامة، مثل مشاريع البنية الأساسية، كما تهدف استثماراتنا إلى التغلب على المشاكل البنيوية التي ابتُليت بها المنطقة.
لقد أكَّدَت هذه الأزمة أن الحاجة إلى مؤسسات عامة جيدة التمويل أمر في غاية الإلحاح. ولسوف يظل ذلك قائماً في المستقبل المنظور؛ ذلك أن القطاع المصرفي الخاص سوف يظل لأعوام قادمة مشغولاً بالتعامل مع عواقب الأزمة المالية. ونتيجة لهذا فإن المستثمرين الآن يقدرون قيمة الشريك العام القوي أكثر من أي وقت مضى.
لقد أدت الظروف الاقتصادية الراهنة إلى دفع طاقات البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير إلى أقصى مداها؛ ولهذا السبب اقترحت على حملة أسهم البنك زيادة رأس المال من 20 مليار يورو إلى 30 مليارا. وهذا يعني أن البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير سوف يتمكن من استثمار 10 مليارات يورو سنوياً على مدى السنوات الخمس القادمة، وهذا من شأنه أن يمكننا بالتالي من الاستمرار في الاضطلاع بدورنا على أكمل وجه، وتوفير الدعم المالي اللازم لبلدان أوروبا الشرقية والقطاع الخاص. ولا شك أن مثل هذه الاستثمارات أصبحت الآن ضرورية إلى حد غير مسبوق، حتى في وقت الانتعاش الاقتصادي التدريجي.
خاص بـ«الجزيرة»
رئيس البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير EBRD في لندن
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2009
www.project-syndicate.org