من منظور عام فإن الصدق والالتزام به قولاً وعملاً أمان ومصدر ثقة للإنسان ولمن حوله، ورائع أن تحتفي به النفس، وأن تكسب ثقة الآخرين. والسؤال الذي يتعلق بذلك عن الأثر في مصدره، والسلوك به..
.. ومن ذلك أن النفس قد تغري بالأهواء والرغبات فيجد الإنسان نفسه بينها وبين التزام الصدق مع خالقه، حيث أمر السماء يحول دون ممارستها، فيحل نوع من الصراع في نفس الإنسان بين نداء الرغبة، وحتمية الامتثال لأمر الله سبحانه، فيأخذ به الصدق إلى قرار لا شطط معه ولا زلل وفق ما هو ملتزم به، ومقدار صدقه مع الخالق.
وهذا أحد أوجه التقوى التي يفترض أن تكون حائلاً ومانعاً بين الإنسان وما توحي به النفس الأمارة بالسوء، وقد يعتمد على تباين الحال في تكوينه بين الخطأ والصواب، والأمل في رحمة الله فتأخذه الرغبة وأهواء النفس إلى الخطيئة، آخر تردعه التقوى ومصداقية الالتزام فيمتنع وإن استجاب يلحق به الندم بعد أن يقبل ما أوحت به النفس ونفذ ما ترغبه التقوى.
إن الخطيئة قد تكون لذة عابرة لا تعطي شيئاً، بينما المصداقية والالتزام سمو في الروح يؤجر عليه الإنسان، وفي ذلك قرب من الله، وطهارة للنفس ومكافأة يوم الحساب، وفي هذا ما يؤكد أن الاستقامة يلحق بها عطاء ورضى من الله، والإنسان بكل التزام مع خالقه يعيش دنياه براحة نفس، وثقة وأمل في ثواب الله.
إنه أمن في المسير، وثواب يوم المصير، إن الالتزام بالصدق يحرك قيماً أساسها الدين والتدين، وهي كثيرة يلازمها الخير في الدنيا والآخرة، والانتصار على الرغبات والأهواء إنجاز يميز الإنسان ويدفع بالآخرين إلى الثقة به فيزداد عمقا في إيمانه حيث الإيمان مرحلة تأتي كثمرة يتميز بها إسلام الفرد ومتى أحاط الإنسان قصور يؤثر على إيمانه يعوض هذا القصور بالمزيد من جهاد النفس، فالجهاد المضني أن يدفع المسلم بنفسه من خلال توجه مخلص ينبع من أعماق وجدانه بالدعاء والتوسل فالله لا يرد رجاء كهذا فسبحانه من قائل: (َبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ )(2) سورة يونس.
إن ما فرض من حساب يجزى معه الإنسان، أو يعاقب لهو تكريم لإنسانيته واعتبار لها، ومن أمثلة الدنيا أن الطالب قد يصل إلى درجة متقدمة أثناء التحصيل يتعرض بعدها لامتحان يقيم- قدر الإمكان- استحقاقه، ومنحه إذن بعمل يؤتمن فيه على مصالح الغير، ولو كان الأمر بما شمل عابراً وهامشياً لما تعرض لهذا الموقف الصعب.
إن المثال متواضع، ويتدنى المعنى فيما بينه وبين يوم الحساب، يوم يسأل بعدل لا تصل إلى مثله كل محاولات الإنسان في الدنيا العابرة، وإن التزام الصدق مع الله ومع العباد انتصار على النفس، وتطويع للسلوك وفق تميز يختص به رجال ونساء تعمق المعنى في نفوسهم من فهم لرسالة السماء، وهذا وعي في النفس ورشد في العقل كما أنه تعلق بمنهاج رسول الحق اللهم صلي وسلم على محمد الأمين.
فالعقيدة والالتزام بما تشمل تأكيد لقدرة الإنسان على الالتزام بالنظام في حياته، وفي كل سلوك يربطه بالآخر، كما أن هذا يرسخ اسباب الطمأنينة في الجوهر والمظهر، إن القوة لديه كبيرة بمقدار ما يستمده من اعتقاده، وهي القوة التي يؤمن ويركن إلى قدرتها، فيصلح بناء الإنسان الذي خلق وفق هدف وغاية.
والقوة هنا يحققها الإحساس بالعدل والأمن باشعاع الأمل، وهذا يحمي ضعفه وعجزه بأثر القوة التي يستمدها من الله، أليس فيما اختاره للإنسان بعد أن خلقه الأصلح بإطلاقه، إن الإنسان لا يقدم على عمل شيء قد اختمر في نفسه، إلا إذا نوى ذلك بأمر الله وتلك النية عامل نفسي له أثر على طهارة النفس، ولنا في إسلام الفاروق عمر رضي الله عنه بعد نفسي نتعرف عليه من لحظة وسعت بل اتسع بها الزمن حين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجمع ردائه، وشده بقوة وقال له: ما جاء بك يا عمر فرد الفاروق بنية الصدق قائلاً: جئت لأعلن إيماني بالله وبك رسولا للحق المبين.
إنه حدث اتسم بصدق في لحظة من زمن طلائع الرسالة المحمدية، فغيرت وبدلت من المسار، كان باستطاعة عمر رضي الله عنه أن يدعي خلاف ذلك لا سيما أن النية بقتل محمد صلى الله عليه وسلم قد جرى بها الحديث، ولكن دافعاً من الصدق وبه ساد الموقف، فالصدق أظهر غريف الفاروق وفسر أعماقه وما عقد العزم عليه، ومن ناحية حيث الصفة المؤكدة الثابتة في طبيعة رسول الحق صلى الله عليه وسلم الصدق المتناهي، فكان يسر في الظاهر والباطن إلى أبي بكر رضي الله عنه فيصدق أبو بكر كل ما يسمع، فسمي بالصديق حيث الصدق من طبيعته، والمتحدث رسول الحق عز وجل، والمستمع رجل الدولة الإسلامية الثاني، وبصفة الصدق قد لقب بالصديق.
وبالمقابل حيث (بضدها تتبين الأشياء)، فماذا استطاع الكذب أن يؤثر به من خلال كعب بن الأشرف الذي اعلن تحالفه مع المسلمين وهو يعمق الطعون في الخلف، ويحاول إفساد ما يستطيع أثناء ما ادعى تحالفه مع المسلمين.
لا أظن أن موضوع هذا المقال ثناء ومديح لصفة الصدق، وإن كان كذلك فهو جهد يحاول أن يفسر أثر الصدق بشواهد مثالها الإنسان الفرد، وأشمل من ذلك ما غيرت به تلك الصفة من أحداث مؤكدة، كما يؤكدها مسار الحدث وتأثيره.
ومن أمثلة اليوم أن أحدنا يستمع بالخبر الذي يثق في صدق من يرويه وهو يدرك أثر الكذب فيه (الدعاية)، وحين يقترب أحدنا من الآخر فهو الذي يختار الصادق الصدوق على غيره، لحاجة تشير إليها روابط العلاقة التي بها نحس بالاعتزاز والتقدير بمقدار الصدق فيها وقيمته في أنفسنا.
وبتوفر الشروط والأسس الهامة لرابط الزواج فإن الاختيار لا يقع على من توفرت فيه كل الشروط وصفة الصدق ليست منها (إن استطاع أحدنا معرفة التفاصيل حين يختار).
إن الصدق يروج لكل إحساس منبعه الوجدان، ويؤدي إلى الاطمئنان، وكل من لديه بضاعة ينوي أن يقدمها للآخرين، وبالذات المعنوية، فالكل يطالب بالصدق حتى وإن كان غير صادق والله أعلم ومنه التوفيق.