فوجئ العالم بما حدث في الانتخابات الإيرانية الأخيرة، فالموقف السياسي والاجتماعي والثقافي تصدع بين المعتدلين والمتشددين، ولم تتمكن حكمة المرشد الأعلى للثورة من احتوائه، لكونه اتخذ طرفاً جانباً من أطراف الصراع وأرغم الشعب على قبول أحمدي نجاد رئيساً، لكن إصرار المعتدلين وعدم الاستجابة للتهديدات ترك الجرح نازفاً.
لم يكن أمام الحكومة من خيار سوى القيام بمحاولات لتوحيد الصف في الداخل، وصرف نظر الخارج عما يحدث، ومن أهم هذه الإجراءات التي اتخذت على المستوى الثقافي للتشويش على متابعة الحراك الداخلي اعتماد الهجوم على بعض الدول العربية والغربية إعلاميا، أما على المستوى السياسي فقد انصاعت إيران إلى الحوار مع الغرب والولايات المتحدة فوافقت على المشاركة في مؤتمر جينيف بتاريخ 31 سبتمبر 2009م.
أما على الصعيد العسكري فقد بادرت إيران إلى استعراض القوة باختبار بعض الصواريخ المختلفة، بالإضافة إلى تسخين بعض الجبهات في اليمن والصومال والسودان وموريتانيا، وبذلك استطاعت إيران أن تبعد النظر عن ما يجري في الداخل.
فعلى مستوى الصواريخ بادرت إيران بعرض لصاروخ من فصيلة (شهاب) وصواريخ (سجيل) التي يقول بعض الخبراء إن مداها يصل إلى إسرائيل والقواعد الأمريكية بمنطقة الخليج، فالحس الثوري الإيراني اختار يوم الأحد 27 سبتمبر 2009 لاختبار خمسة صواريخ قصيرة المدى هي، زلزال، وتوندار، وفاتح التي يتراوح مداها ما بين 150 إلى 200 كلم وشهاب (1) و(2) متوسط المدى، في محاولة لإظهار استعدادها للرد على التهديدات العسكرية قبل أربعة أيام من المحادثات التي جرت في جنيف مع الدول الكبرى وهي التي أبدت قلقها من طموحات إيران النووية.
لقد تزامنت المناورات الصاروخية مع زيادة التوتر حول الملف النووي الذي اعترفت طهران في يوم الأحد 25 سبتمبر 2009 أنها تبني منشأة ثانية لتخصيب اليورانيوم بعد أن اكتشفته المخابرات الأمريكية، مما دعا وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس إلى القول إن هذا الاكتشاف سوف يكون سبباً لفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية القاسية طويلة الأمد على إيران، لكنه قلل من احتمال ضربة عسكرية على الأهداف الإيرانية، في وقت تتفاقم فيه الانقسامات في القيادة الإيرانية والتمرد من قبل الشباب الإيراني.
وفي هذا الصدد أعلن الجنرال حسين سلامي، قائد سلاح الجو الإيراني في الحرس الثوري، قائلاً: إن هذه المناورات ما هي إلا مؤشر على أن إرادة إيران القوية للدفاع عن مبادئنا وأهدافنا وأننا استطعنا رفع دقة صواريخنا، ونأمل في أن تساهم هذه التجارب الصاروخية في قدراتنا الردعية الدفاعية، ثم عقب قائلاً: إن قوة النيران الصاروخية الإيرانية سوف تعطينا إمكانية المواجهة لأي نوع من التهديدات، بردع دفاعي دائم، وأننا قادرون على الخروج برد متناسب يتسم بالسرعة والدقة الفائقة.
وفيما أعرب منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافير سولانا عن قلقه البالغ، إزاء التجارب الصاروخية الإيرانية، في ظل تصاعد المخاوف الغربية، بشأن الطموحات النووية الإيرانية، اعتبرت وزيرة الخارجية الأمريكية هلاري كلينتون في حديثها لشبكة CBN أن محادثات جينيف ما هي إلا اختبار لإيران، وإن فشلت هذه المحادثات فإن سلسلة من العقوبات الدولية الجديدة ضد إيران سوف تفرض عليها، لكن هذا التصريح تزامن مع ما خرج به وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس في حديث لشبكة ABC الأمريكية، بأنه مقتنع تماماً بأن إيران لديها النية لتطوير أسلحة نووية، وأن ما يحدث الآن هو جزء من الأكاذيب والخداع ينتهجها الجانب الإيراني فيما يتعلق بالبرنامج النووي.
***
ولو أخذنا جانب التحليل العسكري لبرنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية، لوجدنا أن البرنامج يحرز تقدماً بطيئاً يعتمد بشكل كبير على تصاميم الصواريخ الروسية والتي تعود إلى الحرب الباردة، واستطاعت إيران أن تقوم بتطويرها بالتعاون مع كوريا الشمالية، ومع هذا فإن إيران في حاجة إلى عقد من الزمان، لبناء صواريخ عابرة للقارات مع أنها نجحت في إطلاق صاروخ سفير إلى مدار حول الأرض حاملاً قمراً اصطناعياً صغيراً.
أما الترسانة النووية الإيرانية للصواريخ، فتنقسم إلى قسمين، صواريخ تعمل بالوقود السائل وأخرى بالصلب، فمن القسم الأول الذي يعمل بالوقود السائل نجدها تنحصر في صواريخ سكود وشهاب، أما القسم الثاني الذي يعمل بالوقود الصلب فمنها رعد وزلزال وسجيل.
فلو تناولنا صواريخ شهاب (3) لوجدناه يبلغ من المدى أقصاه 1500 كلم ويعتبر هذا النوع نسخة من الصاروخ السوفيتي SSN6 لكن إيران لم تنجح في تطوير الصواريخ متوسطة المدى من ذوات الوقود الصلب، أما صاروخ سجيل فتقدر مسافته القصوى بحوالي 2200 كلم مما يضع إسرائيل، وتركيا، وأجزاء من أوروبا الشرقية، داخل مداه، ومع هذا فإن الصاروخ عادة ما يتأثر بكمية المواد المتفجرة التي يحملها.
لهذا نجد أن إيران تركز جهدها على الصواريخ متوسط المدى التي تعمل بالوقود الصلب وتحاول جهدها لزيادة دقتها، وهو ما تفتقر إليه هذه الصواريخ، مما يدل على أن إيران تركز بشكل خاص على الدول التي من حولها.
وإيران لن تصل إلى الصواريخ العابرة للقارات إلا إذا تمكنت من تصنيع صواريخ تعمل بالمراحل، بحيث تنفصل عن بعضها تدريجياً خلال الطيران، لكن تجربة الصاروخ سفير الذي أطلق للوصول إلى مدار الأرض، أثبت نجاحه على اعتبار أنه عمل على مرحلتين.
ومع أن الخبراء في الغرب يؤكدون على أن لدى إيران القدرة على تطوير وإنتاج محركات الصواريخ والتي تعمل بالوقود الصلب، لكنها في حاجة إلى وقت كاف لإجراء التجارب وإتقان عملية تصنيع هذا النوع من المحركات الكبيرة، التي سوف تؤهلها بعد عشر سنوات، أما الخبراء الروس فلا يشاركون نظراءهم الغربيين، في قدرة إيران على تطوير محركات الصواريخ بعيدة المدى.
ولعل هذا هو ما حدا بالرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى إلغاء نشر شبكة الدفاع الصاروخية في بولندا، والاستعاضة عنها بإنشاء شبكات للدفاع الصاروخي في تركيا وبعض الدول الخليجية المحيطة بإيران، تضم ومن أهم هذه الصواريخ المضادة هي (باتريوث) و(ثاد) القادرة على اعتراض الصواريخ الباليستية خارج الغلاف الجوي، أما المدمرات البحرية الأمريكية فقد زودت بنظام (إيجز) الذي يعتبر من أفضل الصواريخ الاعتراضية للصواريخ البلاستية.
فإذا كانت صواريخ الباتريوت فعالة في اعتراض الصواريخ قصيرة المدى مثل (سكود)، فإن صواريخ (ثاد) وصواريخ M3 من نظام (إيجز) لديها القدرة على اعتراض الصواريخ طويلة المدى.
***
إن المبالغة في استعراض القوة يعتبر من الأخطاء الإستراتيجية الفادحة، خصوصاً إذا كانت الدول الخصيمة أكثر قوة، وهذا ما أورده (سان تسزو) المفكر الإستراتيجي الصيني في كتابه فن الحرب، لأن هذا الاستعراض قد يحفز الدول المنافسة إما على الهجوم وتدمير هذه القوة عن طريق العمل العسكري، كما حدث في نكسة عام 1967 وما جرى لصدام حسين عندما أخذ في استعراض قوته، فقررت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تدميرها في عام 1991م.
والطرق المتاحة لتدمير هذه القوة إما أن تكون عن طريق القوة الناعمة القائمة على العمل الدبلوماسي والاقتصادي والإعلامي وهو ما حدث للاتحاد السوفيتي، الذي استطاعت أمريكا بموجب خطة (ماكينمارا) إلى جره إلى تنافس عسكري وحروب بالوكالة، وتوريطه في التعامل مع حلفاء فقراء يستنزفون موارده الاقتصادية، مما أدى إلى انهياره من الداخل، وهذا ما تمارسه الولايات المتحدة اليوم مع إيران، التي أخذت تتوسع في إفريقيا وأمريكا اللاتينية ودعم بعض المنظمات الدولية والعربية، مما أدى إلى انتشار مساحة الفقر داخل إيران وتوسع رقعة البطالة، التي وصلت إلى 46%، كل ذلك أحدث تصدعاً كبيراً في القيادة الإيرانية في الداخل، أما سياسة إسرائيل فتنتهج الأسلوب الآخر وهو العمل على تدمير هذه القوة بالعنف العسكري، وهذا هو الاختلاف يبن الإستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية حيال إيران.
***
لقد كنت أهاتف في عيد الفطر المبارك 1430هـ أحد أصدقائي الجنرالات، فذكرني بأنه سأل صديقه وزير الدفاع السابق لبريطانيا والحفيد لونستون تشرشل. قائلاً له: ما هي حدود قوة أمريكا..؟ فقال له: لو أن الولايات المتحدة فجرت 10% من قوتها النووية على سطح الأرض فإن الكرة الأرضية سوف تغير مسارها حول الشمس، وعندما سأله عن المقارنة بين أوروبا وأمريكا، قال له: إن الولايات المتحدة الأمريكية عبارة عن ترس كبير يدور في اتجاه واحد فكل دول من الدول الأوروبية تحاول جهدها للإمساك بطرف من الترس لتدور معه.
***
إن الحكمة تتطلب منا أن نتعرف على حدود القوة بيننا وبين خصومنا حتى لا نرتكب مغامرات غير محسوبة، تؤدي بشعوبنا إلى مآس يصعب احتواؤها، إن طموحاتنا يجب أن تكون في حدود قدراتنا، فصناع القرار يجب أن يتمتعوا بموهبة التفكير الاستراتيجي فعصور الفهلوة قد ولت ولن تعود أبداً.
رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الإستراتيجية والقانونية