الحديث عن الشخصيات الاستثنائية يتطلب القدرة على تثوير كافة الأنساق الثقافية والسياسية والدينية المسهمة في بناء هذا الصنف من الزعماء.
وما مفاتيح البحث عنها وفيها إلا التاريخ الذي نسلت من رحمه تلك الشخصيات؛
فهو وحده الذي يقطع قول كل خطيب.
وحق صناع الأمجاد أن نحترم تاريخهم بحيث لا نتسطح على ظواهر الأحداث، نسوقها رواية لا دراية، وقولاً لا اقتداء.
والملك عبدالعزيز بوصفه واحداً من أنبل عظماء التاريخ وصناعه المهرة جدير حين يقارب شخصيته العلماء والأدباء والمؤرخون والساسة أن يكونوا في مستوى الأحداث الجسام التي غامر فيها، وأن يباشروه وفق آليات ومناهج ترقى إلى مستواه محلياً وعالمياً؛ إذ في تناول أطراف من حيواته الحافلة بجلائل الأعمال عوائد تربوية وتاريخية وسياسية نحن أحوج ما نكون إلى مثلها في ظل الظروف العالمية المتوترة، والتكتلات العرقية والطائفية والتصعيد الإرهابي المخيف واختلال الوحدات الإقليمية والفكرية على كل الصعد العربية.
ومئات المؤلفات وآلاف الدراسات التي تناولت جوانب من حياته قد لا تتوفر على متطلبات المتابعين في ظل هذه الظروف الطارئة والمنذرة بالخطر من خلال ما نسمع ونرى من حروب أهلية وتدخلات خارجية ومؤامرات مُصْمِية.
والكتاب كالمصورين يلتقط كل واحد منهم الزاوية التي تهمه وتستجيب لمرحلته المعاشة، وقد يكون البعض دون المستوى، فيما يكون البعض الآخر غزير المعرفة مكتمل الآلية، ولكنه ناقص الأمانة، متبع لهواه، تشده انتماءات لا تقيم للمصداقية وزناً، ولا للأمانة مكاناً، ولا للمتلقي قيمة.
وإذ يتحول الملك عبدالعزيز إلى شخصية تاريخية فإننا لا نملك احتكار الحديث عنه، ولا عسف الناس على ما نود تناوله، وإن كان من حقه علينا الذود عن حياضه والذب عن مثمناته؛ فهو صانع تاريخنا الحديث، ومثله مشروع اجتهادات واختلافات غير أنه يظل بطلاً عالمياً لا يماري فيه إلا مكابر، وبطولته ليست وقفاً على شجاعته ولا على دهائه، وإنما تمتد إلى همه الذي يساوره المتمثل بمشروعه الحضاري الذي أخرجه للناس فبهرهم وفتح شهية الحديث عنه.
وسير أعلام النبلاء تهيئ منطلقات، فكرية وسياسية، تتربى عليها الأجيال، ويقتفيها الأنداد، ويستلهمها المريدون، ولكل دارس وجهته واهتمامه وحاجته في مقاربة النبلاء. وإذ اختلف المفكرون والفلاسفة والنقاد والعلماء حول مجمل القضايا المتعلقة بتخصصاتهم فإن دارسي الشخصيات السياسية أجدر ألا يتفقوا؛ ولهذا فإن مثل هذه الشخصية ستظل مشروع بحث متشعب ومجال اختلاف كبير.
وعهدي بالملك عبدالعزيز - رحمه الله - يتجدد، وفي كل مرة أحاول التقاط الزاوية التي تناسب المرحلة المعاشة، لقد ألفت عنه وحاضرت وكتبت وما رفعت قلمي إلا ليأخذ أنفاسه، فيعود من جديد منطلقاً من زاوية جديدة من تلك الحياة المثيرة؛ فنحن أولى به وبتاريخه ومنجزه الذي ننعم بخيراته.
واليوم الوطني يفرض فيما يفرض على أبناء هذا الكيان صانعَ هذا الكيان وليس الهدف وقفاً على التمجيد والإشادة، وإنما الهدف الأسمى محاسبة النفس عما فعلته وتفعله من أجل هذا الكيان الذي أنجزه المؤسس على قاعدتين: (الوحدة) و(الدولة)؛ إذ هما جماع عمله وذروة سنام وحدة إقليمية وفكرية واجتماعية، ودولة حضارية تخفق بجناحي: العقيدة والعلم.
والإشكالية ليست في الحديث؛ فالمادة التاريخية مطروحة في الطريق، ولكنها في المنطلق، فمن أين نبدأ؟
إن شخصية الملك عبدالعزيز جذابة ومربكة، وبخاصة لمن استوعبوا المحطات التاريخية الثلاث:
* ما قبل معركة التكوين وأثناءها.
* ومعركة البناء.
* ومنجز المعركتين.
إذ في كل مرحلة يتجلى جانب من شخصية المؤسس بوصفها مصدر الأحداث، ولأنه واحد من أسرة ظلت تتداول السلطة ثلاثة قرون؛ فإنه جماع تجاربها وخلاصة معاناتها، وحين لا يكون مجتثاً من فوق الأرض السياسية فإن قارئه مضطر أن يتجاوز الأحداث بوصفها وقوعات إلى لحظات تشكلها؛ فالخلفية المعرفية لدى المؤسس لحظة إدارته للأزمات تولد تساؤلات عدة تجعل من الحدث ذاته إشكالية. ورجل ولد في أحضان السياسة، وتجرع مراراتها، وعاش نكساتها وانكساراتها لا يمكن أن يرتجل التعامل مع الأحداث، ولا أن يجازف في التصرفات. وحذاق التاريخ وأساطين السياسة أدركوا ذلك البعد في حياة الملك عبدالعزيز، والدراسات المعمقة التي أنجزوها قيدت نفسها في استنطاق الأحداث عن هويتها، ولا أشك أن الأحداث تمر بالبسطاء رواية لا دراية بحيث يتحول الحدث إلى مناسبة تاريخية وحسب، ثم لا يكون تحليلاً يصل بالمتلقي إلى الأعماق الكاشفة عن عبقرية المتصرف، ولأن إدارة الأزمات ومواجهة المواقف لم تكن اعتباطية فإن القارئ بأمس الحاجة إلى منهج وآلية يمكنان من تثوير الأحداث لاستكناه الحيثيات والمسوغات.
وسأضرب مثلين:
- الأول: (توطين البادية) إنه حدث يمر به الخليون على أنه ممارسة طبيعية فرضت نفسها، والحق أنها (استراتيجية) وواحدة من أهم (الأجندة) الحضارية والمدنية التي تؤكد اهتمام الملك عبدالعزيز ببناء الدولة المدنية المواكبة لمنطق العصر؛ فالتوطين يستتبع مستلزمات التحضر، من تعليم وتأهيل وتوسع مؤسساتي.
- والثاني: (معارضة الإخوان) الذين لم يستوعبوا الهم الحضاري الذي يساور المؤسس؛ فالخليون - أيضاً - ينظرون إليه على أنه مواجهة حربية انتصر فيها جيش الملك عبدالعزيز، والحق أنها مواجهة بين خطابين:
- خطاب حضاري يرى أن الخيار الوحيد هو خيار الدولة المدنية الآخذة بعصم العقيدة والمدنية والمستثمرة للطاقات الكامنة في الإنسان وفي الأرض.
- وخطاب قبلي إقليمي انكفائي يعتزل الحياة، ويكتفي بالبلغة، ولأنه سليل تجربة سياسية ضاربة في جذور التاريخ، فقد توسل بالعلماء وزعماء القبائل لإجهاض هذا الخطاب بالتي هي أحسن، ومن ثم جنح إلى الحوار واحتواء الموقف. ولما لم يستجب الطرف الآخر واجه قدره وانتصر.
وقبل ثلاثة عقود سألت معمّراً من أقاربي عاصر دخول الملك عبدالعزيز للرياض، وكان مزارعاً ب(مركز رغبة) في عنفوان شبابه: ما الذي مكن الملك عبدالعزيز من الانتصار على الرغم من قلة العدد والعدة؟
فقال: الحق والسمعة والتحضر. ثلاث كلمات أجملت أجواء المرحلة، وهي:
- حقه المشروع في استعادة ملك آبائه وأجداده.
- والسمعة الطيبة للأسرة الحاكمة.
- وتطلع الأمة المجهدة بالحروب القبلية والإقليمية إلى قيام دولة قوية عادلة تشيع الأمن والاستقرار وتمكن الإنسان من استغلال مواهبه وأرضه في أجواء من الثقة والاطمئنان.
فكان الملك عبدالعزيز هو المنقذ المرتقب، ولأنه واثق من مشروعه فقد دخل الناس في بيعته أفواجاً، ومن تمنع أتاح له أكثر من فرصة لمراجعة نفسه، وحين لا يكون بد من المواجهة فإنه يمارسها في أضيق نطاق وأقل خسارة، وحين ينتصر يسبق عفوه عقابه، بل يعيد لكل أمير إمارته ولكل زعيم زعامته، وقد يوثق العلاقة بالمصاهرة؛ الأمر الذي حول الخصوم إلى أنصار والمناوئين إلى مخلصين ومكنه من بناء دولة عصرية، أنهت الصراعات القبلية والإقليمية ومكنت الأمة المتشرذمة من توجيه كل طاقاتها للصناعة والزراعة والتعلم والتحضر.
يتبع