Al Jazirah NewsPaper Monday  05/10/2009 G Issue 13521
الأثنين 16 شوال 1430   العدد  13521

الدكتور فخرو وسكوت شهرزاد
عبد الله الصالح العثيمين

 

عرفتُ الدكتور علي فخرو - كما عرفه الكثيرون - مفكراً مخلصاًَ لوطنه وأمته. وعرفته - كما عرفه الكثيرون أيضاً - مقتدراً على التعبير عما يشعر به تجاه قضايا هذه الأمة وذلك الوطن. ومما يدل على مقدرته على التعبير عن مشاعره المخلصة مقالة نشرت له في صحيفة الخليج الإماراتية

(بتاريخ 8 شوال 1430هـ) بعنوان (وسكتت شهر زاد عن الكلام المباح) علق فيها على سقوط الوزير فاروق حسني في انتخابات منظمة اليونسكو، وصاغها صياغة بارعة رابطاً بين تلك المسألة وحكاية شهريار وشهر زاد. وأثار أسئلة جديرة بالإثارة حول ما يتوقع - أو يؤمل - أن يُتخذ موقف تجاه الحملة الصهيونية التي أدت إلى سقوط ذلك الوزير في تلك الانتخابات كما قال الوزير الذي وجهت إليه تلك الحملة.

ومن الأسئلة التي طرحها الدكتور فخرو سؤال عما إذا كانت دولة الوزير حسني (بلد الكنانة) قلب هذه الأمة العربية ورمز كبريائها القومي تجاه ما حصل في قاعة مجلس اليونسكو التنفيذي، ستفعل أي خطوة إيجابية. هل ستفتح - مثلاً - ملف أنبوب الغاز المصري الذي يوفّر الطاقة للمكينة الاقتصادية والعسكرية الصهيونية بثمن بخس قلّ نظيره، فترفع الثمن أو تقطع المصدر أو تستعمل حقوقها السيادية؟ وأورد الدكتور فخرو أمثلة أخرى جديرة بأن تطرح أسئلة حولها، مشيراً إلى أن كل سؤال يحتاج إلى ليلة يتحدث فيها. وهناك ألف سؤال وسؤال تتطلب الإجابة، واختتم مقالته بقوله:

(إن معركة انتخابات اليونسكو كانت رمزية إلى أعمق أعماق الصراع العربي الصهيوني، لقد أكدت أن الصهيونية خطوطها الحمر واضحة: عدم قبول ارتفاع أي رأس عربي في أي مكان إلا برضاها ومباركتها. وإذا فشلت نتائج هذه المعركة القبيحة في إيقاظ العقول العربية المخدرة التي حلمت بإمكانية التعايش العربي مع الوجود الصهيوني في الأرض العربية. ورجعنا إلى إعطاء الخد الأيسر لمن صفعنا على الخد الأيمن، فإننا سنرتكب حماقة العمر، ونكون قد وقعنا في نوبة تنويم مغناطيسي صهيوني جديد).

وكل مخلص لأمته يرجو ويأمل أن يعود الشعور بالكرامة إلى اليقظة، زعامات وشعوباً، كما كان حياً متوقداً، لكن حوادث عديدة أكثر وضوحاً وأهمية لم توقظ ذلك الشعور، ولم تشعل توقداً لدى الأمة مع الأسف الشديد.

ومن تلك الحوادث أن وسائل إعلام مختلفة كشفت أن الصهاينة في حرب عام 1967م قد أمروا الجنود المصريين بالتمدد على الأرض، ثم جعلوا المجنزرات تمر على أجسادهم. ومع ذلك لم ير الناس أي رد فعل يليق بكرامة الأمة على تلك الجريمة النكراء المهينة، والإهانات التي وجهها زعماء الكيان الصهيوني إلى أمتنا - وفي طليعتها أكبر أقطارها مصر ذات الحضارة العظيمة - كثيرة لا يتسع حيز المقالة لذكر بعضها، ناهيك عن ذكرها كلها. على أن مما تجدر الإشارة إليه أن الوزير حسني سبق أن دعا العازف الصهيوني قبل عدة شهور ليعزف في دار الأوبرا المصرية التي هي رمز من رموز الثقافة في تاريخ مصر المعاصر، على الرغم من مقاطعة أغلبية الشعب المصري العظيم لأي نشاط صهيوني فني أو غير فني. وللمرء أن يسأل عن الدافع وراء تلك الدعوة في ذلك الوقت بالذات. لكن نتيجة انتخابات اليونسكو لم تأت بما اشتهت سفن الداعي.

ولقد تزامنت كتابة الدكتور علي فخرو مقالته مع ارتكاب الصهاينة واحدة من جرائمهم المتحدية، التي تستهدف إكمال تهويد مدينة القدس، بما فيها مسجدها الأقصى، وذلك عندما حاولت عصابة صهيونية بالتنسيق مع حكومة الكيان الصهيوني بالتأكيد الاستيلاء على ذلك المسجد. وكان كاتب هذه السطور قد تملكه الشعور ببداية الاستخذاء العربي وفقدان الكرامة عند نهاية حرب 1973م. وكانت تلك الحرب - كما هو معروف - قد بدأت بداية عظيمة أثبتت عظمة المقاتل العربي على الجبهتين المصرية والسورية، لكن تدخل من تدخل في مسيرتها قلب النصر إلى هزيمة، إذ انتهت المعركة بمحاصرة الجيش الصهيوني لقسم من الجيش المصري غرب قناة السويس حتى توصل إلى حل في خيمة كانت رمزاً لجرح شمم الأمة. ولقد عبرت وقتها عن ذلك على لسان مقاتل مصري بطل في رسائل بعثها إلى أمه من الجبهة. أشار في الأولى منها إلى تبرمه من الذل الذي كانت الأمة فيه بحيث كانت سادرة في غيّ تخاذلها قائلاً:

كأن مغتصباً لم يغتصب بلدي

وأمتي لم يدنّس عرضها العار

ومسجد القدس لم تذرف منائره

دمعاً ولم تلتهم محرابه النار

أمي تبرّمت من ذلّي ومن دعتي

وهاج في دمي الإيمان والثار

ولم تعد فلسفات الصمت تخدعني

وإن تصغهن (أهرام) و(أخبار)

تعاقب السنوات الست أوضح لي

ضلال من جنحوا للسلم واختاروا

وأن تحرير أرضي لا تحققه

إلا دماء سقتها الأرض أحرار

ومما أشار إليه ذلك البطل في رسالته الثانية إلى أمه أنه هو ورفاقه هبّوا

وتسابقوا نحو القناة تقلهم

للتضحيات عزيمة لا تقهر

وتعاهدوا أن يستمر كفاحهم

حتى يعيدوا أرضهم ويحرروا

ويطهروا القدس الشريف من الألى

هدموا تراث المسلمين ودمّروا

أما الرسالة الثالثة فعبر فيها، مفتخراً بما كان يحققه المقاتلون العرب على الجبهتين المصرية والسورية من تقدم بطولي، ومطمئناً أمه بإنهائه الرسالة قائلاً:

الآن - يا أمي - أعيد كرامتي

أقضي على ذلي قضاء مبرما

وغدا ربوع القدس تصبح حرة

والمسجد الأقصى عزيزاً مكرما

وأما الرسالة الرابعة فطلب فيها من أمه المعذرة لتأخره في الكتابة إليها؛ لأن الأسى قد شلّ يده عن الكتابة، وعبر عن ذلك بقوله:

أمَّاه إن كنت لم أكتب فمعذرة

يد الأسى حطّمت في كفي القلما

ماذا أقول؟ دخان الحزن يخنقني

يغتال في شفتيّ النطق والكلما

ثم أشار إلى أنه تحدث بالأمس عن النصر الذي كان يحققه هو ورفاقه، آملين أن يعيدوا إلى القدس هويتها العربية الإسلامية، ويسقوا العدو كأس الذل، لكنه أصبح يرى وضعاً يمزّقه، ويبث في مهجته الألم العميق والحزن القاتل.

فقد:

توقفت طلقات النار عاد إلى

مجاهل الصمت صوت ضج واحتدما

والقدس ما زال محتل يدنّسها

وغاصب في حماها يرفع العلما

وعدت أبحث عن حل يقدمه

من صب فوقي من ويلاته ضرما

وعن وثيقة تخليص أوقّعها

في خيمة جرحت من أمتي الشمما

ما قاله ذلك المقاتل العربي قبل خمسة وثلاثين عاماً يصوّر ما نحن عليه الآن. ولقد سبق أن كتبت مقاله عنوانها (رحم الله الكرامة) ثم كتبت مقالة أخرى عنوانها (ورحم الله الحياء). وما يشاهد الآن على أرض الواقع يجعل المرء يكاد يقول: (ورحم الله القدس ومسجدها الأقصى).


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد