نتج عن الطفرة التي شهدتها المملكة في جميع المجالات ومنها الزراعي، استنزاف كميات كبيرة من المياه الجوفية غير المتجددة التي اختزنت خلال آلاف السنين، واستخدمت وتستخدم أرقى أنواع مضخات المياه العملاقة لسحبها خلال سنوات بسيطة دون وضع برنامج متوازن يحافظ على هذه المياه لسنوات أطول.
فالمختصون في هذا المجال يعرفون أن هذا السحب الكبير والجائر قد تسبب وسوف يتسبب في حالة استمراره في سرعة هبوط مستويات هذه المياه، ومع مرور الوقت قد يصل إلى الجفاف لبعض التكوينات المائية لأن السحب من هذه المياه غير المتجددة يفوق بدرجة كبيرة الاستعاضة التي لا تكاد تذكر بالمقارنة مع كمية السحب.
وقد شهدت جميع مناطق المملكة هبوطاً في مستويات مياهها الجوفية غير المتجددة.. فلقد هبطت مستويات المياه من عام 1983م إلى عام 2004م في إحدى مناطق أكثر من 90 متراً، وفي منطقة أخرى من عام 1973 إلى 2004م أكثر من 150 متراً.. ومع استمرار السحب غير المتوازن للمياه الجوفية غير المتجددة قد تصل -لا قدر الله- مستويات المياه إلى قرب قيعان الآبار، وبالتالي جفاف هذه الآبار.. وما جفاف عيون الأحساء والخرج والأفلاج وهبوط مستويات المياه المتدفقة تلقائيا في مناطق وادي الدواسر والقصيم والشرقية عنا ببعيد، إضافة إلى ما يحصل من ارتفاع في ملوحة المياه مع السحب الزائد.. فلا بد من إيجاد معادلة معقولة للسحب محافظة على مستويات المياه ونوعيتها، والهبوط وضع طبيعي نتيجة السحب ولكن أن يكون بهذا المستوى فهذا يدل على سحب جائر وغير متوازن وكبير للمياه وفيه خطورة على مستقبل المياه الجوفية..
هذه التحذيرات أعلاه ليست من متخصص عادي بل هي مقاطع مقتطفة من نهاية كتاب نزل مؤخراً بعنوان: الآبار ومصادر المياه في المملكة العربية السعودية، للجيولوجي وخبير المياه عبد الله بن عبد الرحمن الحميِّن، الذي سبق أن شغل منصب مدير عام إدارة تنمية موارد المياه بوزارة المياه والكهرباء، وسبق أن كلف في فترات بالعمل وكيلا للوزارة لشؤون المياه.
ويتوزع الكتاب في خمسة فصول، يعرض الفصل الأول مقدمة عن أهمية المياه والتعريف بأصل المياه الجوفية وخصائص خزاناتها وتغذيتها ونوعية مياهها وتلوثها. ويتناول الفصل الثاني تصميم الآبار وطرق حفرها؛ فيما الفصل الثالث يركز على عمليات إكمال الحفر وطرق التنفيذ والمشاكل التي تحدث أثناء ذلك. وفي الفصل الرابع يتم التطرق إلى عمليات إنهاء الآبار وصيانتها وتطويرها. أما الفصل الأخير فقد خصصه المؤلف لمصادر المياه في المملكة وأهمية الإشراف على تنفيذ الآبار من قِبل جهة مختصة والمحافظة على المصادر المائية.
ولعل الفصل الخامس هو أهم ما يعني المراقب العام والقارئ غير المتخصص أو الذي لا علاقة مباشرة له بالزراعة وما يتصل بها من حفر الآبار وصيانتها. ففي هذا الفصل نجد معلومات مهمة في مجال مصادر المياه بالمملكة. حيث تنقسم إلى مصادر تقليدية وهي الأمطار والمياه الجوفية، وغير تقليدية وأهمها مياه البحر المحلاة ومياه الصرف الصحي المعالجة.
وبصفة عامة يقدر معدل هطول الأمطار على المملكة بنحو 90-100 ملم في السنة، وللاستفادة من هذه السيول فقد أنشئت السدود لحجز هذه المياه، التي تقدر بنحو ألفي مليون متر مكعب في السنة. وكان أول سد تم إنشاؤه قبل أكثر من نصف قرن، وهو سد عكرمة في أعلى وادي المثناة بالطائف عام 1376هـ، وكان له دور كبير في حماية مدينة الطائف من أخطار السيول، بالإضافة إلى دعم مصادر المياه. ويبلغ عدد السدود المنفذة بالمملكة 230 سداً، تختلف من الناحية الإنشائية تبعاً لطبيعة وتضاريس الوادي المقام عليه السد.. فهناك السدود الخرسانية والترابية والركامية والجوفية.
ويتساءل كثير منا عن الأهداف المحددة لإنشاء السدود؟ تتعدد الأغراض من بناء السدود، ويأتي في مقدمتها تأمين مياه الشرب والاستخدام الآدمي. والسدود التي تنشأ لهذا الغرض يتم تأمينها بمحطة تنقية، ومن أمثلة ذلك سد العقيق بالباحة وسد الملك فهد في بيشة. كما أن من أهداف السدود هو حماية التجمعات السكانية في المدن والقرى من السيول، حيث يتم حجزها ثم تصريفها بنسب محددة حسب سعة مجرى الوادي، ومثال ذلك سد وادي نجران. كذلك فهناك السدود التي تبنى بهدف زيادة تغذية المخزون الجوفي والمساعدة في رفع مستوى المياه في الآبار الواقعة على امتداد الوادي وخلف السد. وهناك سدود تنفذ لتوفير مياه الري للمناطق الزراعية، حيث يتم تجميع السيول التي ترد للسد ثم تصريفها عند بدء الموسم الزراعي.
وبالنسبة لمصادر المياه غير التقليدية، فإن المملكة تعد رائدة عالمياً في مجال تحلية مياه البحر، وتأتي في المرتبة الأولى في العالم بنسبة 18.7% يليها الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 15.8% ثم الإمارات العربية المتحدة 14.6% فإسبانيا 6.1%. وقد بدأت فكرة تحلية مياه البحر في عهد المؤسس المغفور له الملك عبد العزيز قبل أكثر من ثمانين عاماً (1928م)، بإنشاء جهاز تكثيف لتقطير مياه البحر، أطلق عليه اسم الكنداسة، حيث قامت بالمساعدة في تأمين احتياجات قوافل الحجاج والمعتمرين ومدينة جدة من مياه الشرب، ثم تم إنشاء مكتب خاص بالتحلية عام 1965م، ثم تحول إلى مؤسسة عامة لتحلية مياه البحر عام 1974م. وقد ارتفع إنتاج المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة من 21 ألف متر مكعب باليوم عام 1973م إلى مليونين وثمانمئة وسبعين ألف متر مكعب باليوم في الوقت الحاضر.
وتُنفذ العديد من مشاريع إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة لاستخدامها في أغراض ري المزارع في المدن القريبة من المصدر وفي بعض الأغراض الصناعية، وعلى سبيل المثال فإن محطة الصرف الصحي بالرياض تعالج ما يقرب من 400 ألف متر مكعب باليوم يستفاد من نحو220 ألف متر مكعب.
المحافظة على المصادر المائية هي خاتمة الفصل الأخير في الكتاب، وهي ما بدأنا به هذه المقالة الاستعراضية، لما لهذا الموضوع من أهمية قصوى للجميع، المختصين وغير المختصين، فالمملكة -كما يوضح الكتاب- من الدول الصحراوية الفقيرة بمصادرها المائية، حيث تمثل تحلية مياه البحر نصف مصادر مياه الشرب، وتمثل المياه الجوفية والسطحية النصف الآخر.
أخيراً، فإنني أرى الكتاب ثرياً في مجاله وإضافة مهمة للمكتبة العلمية العربية، ويمكن أن يعد مرجعاً في مجال الآبار، فقد اتبع المؤلف المنهج العلمي القريب من الأكاديمية، مع وضع أمثلة واقعية تساعد المهتم على توضيح الفكرة، مع صياغة لغة سهلة غير منغلقة على تخصصها. وقد زخر الكتاب بالجداول والأشكال والرسومات والصور التوضيحية التي تسهل على القارئ استيعاب الموضوعات المطروحة.
alhebib@yahoo.com