حين كانت بريئة حد الفضاء أغراها البحر بامتداده فهرعت تحبو على رماله.., تتجه لها بشهقاتها, وعبثها الطفولي، لم تكن في رأسها ملامح الخوف، أو في صدرها رهبة الخشية، حتى فسحة البحر كانت لها أماناً ترتمي فيه وتغدو..
(من كبّ البحر) سألتني مراراً.., فأخبرتها بأنه الله، هو العظيم الذي (كبَّه).. ومدِّه.. وأمدَّه....
وفي أول رحلة لها خارج مدارات سماواتها, وصحرائها، بعد أن تابعت صغيرة النجوم, وهي تركض، وأشارت للقمر وهو يختبئ بفرحها البريء، وساءلتني مراراً: (أين يندسُّ القمر).., ومن (يرقِّص النجوم)..
كانت وهي تضع قدميها الصغيرتين على رمال شواطئ المحيط الكبير تدرك أن الماء الممتد ليس مكاناً آمناً للعبث والركض.., سمعت ذات صباح أبواق الإنذارات، والناس تدعو بعضها للمخابئ السفلية تحت المباني الفارهة وهي واحدة منهم.., أن البحر يُنذر, وأن الماء ليس كما كانت تعرفه وهي طفلة, يمكنها الاطمئنان المطلق له.., تبدلت المفاهيم لديها وتطورت الدلالات في ذهنها، واتسعت خبراتها، فماء تحتسيه، وماء ترشفه، وماء يُغرق.., وماء يُنقذ.., وماء يُحيي وماء يُميت...
البارحة.. وجدت في بريدي هذه السطور منها: (أمي، ارتفع مد البحر ثلاثة أمتار وأكثر، فرَ سكان مدن ساموا المتاخمون للهادئ، جاءهم الرعب من البحر، تذكرت فزعي من أبواق الإنذار وأنتِ تضمينني من رجفة الخوف، تذكرت كيف تبدلت فسحة الفرح في داخلي للبحر، إلى زوايا من الحذر في كل ركن منها سؤال، أمي: الخطر يداهم السواحل هناك (تسونامي) لا يبقي ولا يذر، حفظتك عناية الله وأنت التي دلقت بماء روحك في تجاويف اطمئناني, وجعلتني أرشف ماء اليقين زلالاً)..
لم يعد هناك حدٌّ بين مدٍّ ومدٍّ.. فمن حيث تغرق ساموا ببلل البحر، أغتسل بماء الفرح.. بين طفلة كانت تسأل من (كبَّ) البحر؟ وهي الآن تقرأ مؤشرات مستوى البحر...
يا لعظمة الخالق...
بحره أفق من الحكمة.. ومدٌّ من التأويل...