احتفلت جامعات ومراكز أبحاث وهيئات علمية على امتداد الوطن العربي والعالم الإسلامي، وبعض الجامعات الأوروبية والأمريكية والآسيوية بالذكرى الحادية عشرة بعد الثمانمائة لوفاة فيلسوف العقلانية العربية الإسلامية ابن رشد الذي يعتز به (التيار العقلاني) في الثقافة السائدة في أوروبا ويعترفُ له بالدَّين.لأن كتبه كانت نقطة انطلاق أوروبا من ظلام العصور الوسطى إلى عصر النهضة.
والعقلانية أداتها العقل الذي قال فلاسفته إنه لا يجوز أن يكون عليه سلطان سوى العقل نفسه، أي أنها طريقة في التفكير عكس اللاعقلانية والخرافة، أي أن لكل نتيجة سببا أوعدة أسباب، ولكل ظاهرة طبيعية أواجتماعية تفسيراً! وهي تعني أيضاً قدرة الإنسان في ممارسته المعرفية وفي حياته اليومية، على المساءلة الواعية والنقد ومعرفة القضية أوالموقف المطروح من كل الزوايا، بعيداً بقدر ما يستطيع عن تحكم العواطف والمشاعر، وهي أيضاً إجراء المقارنات الحكيمة، ونقد ووزن الاعتبارات كافة لمصلحة أوضد هذا الاختيار أوذاك، بحيث يمكن تبرير وتعليل أقوال الإنسان وتصرفاته واختياراته، بل والتعرف إلى الظواهر الطبيعية والحركة في المجتمع الإنساني بصراعاته وعلاقاته.
وتتميز العقلانية في نظرية المعرفة بوصفها أن للعقل دورا محوريا في إنتاج هذه المعرفة أكثركثيرا من الدور المنوط بالتجربة الحسية، وما يرتبط بها من إحساس وتصور وإدراك. وواقع الأمر الذي أثبتته تجربة الإنسان التاريخية على مر العصور وفي المجالات الكثيرة التي تزداد اتساعا كل يوم، إذا يوسع العقل الإنساني آفاقه بماله من قدرات تتخطى حدود ما يأتيه مباشرة من التجربة العلمية الحية، وهنا تستكمل العقلانية وجودها وتواصل تشكلها في سير أغوار العالم بارتباطها بنشاط الناس التجريبي والعملي، وتتسلح حينها بالقدرة على اكتشاف الأغوار العميقة باستخدامها كل ما يحصل عليه العقل الإنساني عن طريق الحواس في عملية تفاعل جدلي دائمة التطور في حركة دائمة لا تتوقف أبدا تنتج عنها معارف جديدة وتفتح أمام التقدم الإنساني أبواب المستقبل.
وفي سياق انتعاش الأفكار والحركات العنصرية وصعودها في عدد من البلدان الأوروبية، وقدرة هذه الحركات على استخدام-أوبالأحرى استئجار-بعض الباحثين لتزييف التاريخ، دارت معركة فكرية في العاصمة الفرنسية باريس بين كبار الباحثين والمستشرقين المشهود لهم بالنزاهة والموضوعية من جهة، وباحث معاد للثقافة العربية الإسلامية من جهة أخرى، حول دور الفلسفة والفكر الإسلاميين، وبخاصة دور ابن رشد في خروج أوروبا من ظلام العصور الوسطى إلى عصر النهضة، وهوما ينكره هذا الباحث الذي لم يتورع عن محاولة تطويع العلم ضد العقل، وقد دار سجال واسع في الصحافة والإعلام الفرنسيين، أكد فيه الناقدون للكاتب (سيلفان كوجونهايم) والمشككون في مصادره محورية الدور الذي لعبته فلسفة ابن رشد في أوروبا، أوروبا التي ما إن خرجت من الظلمات إلى النور بعد رواج أفكار فيلسوفنا العقلاني إلا وواصلت تقدمها منذ ذلك الحين بمتوالية هندسية فأزاحت الخرافة لتتوارى في سراديب هامشية، وأعلت من شأن العقل ليكون سيداً.
لقد تغيرت مظاهر الحياة في العالمين العربي والإسلامي من حيث الاستخدام الواسع للتكنولوجيا، لكن الذهنية العامة لم تتغير، ولم تصبح العقلانية هي التيار السائد في هذين العالمين.ولا نزال نحن العرب والمسلمين في أمس الحاجة إلى أن نعيد قراءة ابن رشد ونحتفي به، ليس بوصفه ميتاً، كما فعلنا مع كل فلاسفة العقل والحرية والعدالة، وإنما كحي فاعل، فنسعى لنقل فاعليته من المجالات النخبوية والجامعية المحدودة إلى الثقافة العامة، ثقافة الجماهير الواسعة التي يسيطر عليها الآن من يفتون من كل حدب وصوب (على الهواء مباشرة) بدعوى حق غايتها الإفساد، وهؤلاء الذين ينكرون أن التراث العربي الإسلامي ليس كتلة واحدة متجانسة، وأن في هذا التراث ما هوعقلاني وموضوعي ومدافع أصيل عن حرية الفكر والتعبير وحرية المرأة، وفيه ما هومعاد للحرية بكل أشكالها، ولا عقلاني وخرافي.الأول يدفع بنا إلى الأمام ويضيء ظلمات الكون والمجتمع والنفس الإنسانية، والثاني يدفع بنا إلى الخلف حيث يُكبّل العقل ويروج للتكفير والخرافة باسم قراءة أحادية ضيقة الأفق وحرفية للنص الديني مخاصماً بذلك دعوة ابن رشد وممارسته المعرفية التي قامت على التأويل (التفسير) العقلاني، وفي هذا وضع كتابه (فصل المقال) الذي قال عنه المفكر محمد عابد الجابري (إنه فتوى نقض وإبرام في شرعية الفلسفة، وتأسيس لفقه التأويل، ومن وراء ذلك طرح العلاقة بين الدين والمجتمع).
وفي معنى التأويل يقول ابن رشد: (معنى التأويل هوإخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أوبسببه أولاحقه أومقارنه أوغير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي.وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية فكم بالحريّ أن يفعل ذلك صاحب علم البرهان فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني والعارف عنده قياس يقيني)1ويقول أيضاً: (وليس لقائل أن يقول: إن هذا النوع من النظر في القياس العقلي بدعة، إذا لم يكن في الصدر الأول من الإسلام، فإن النظر أيضاً في القياس الفقهي وأنواعه هوشيء استنبط بعد الصدر الأول وليس يرى أنه بدعة. فكذلك يجب أن يعتقد في النظر في (القياس العقلي-ولهذا سبب ليس هذا موضع ذكره- بل أكثر (أصحاب) هذه الملة مثبتون القياس العقلي، إلا طائفة من الحشوية قليلة وهم محجوجون بالنصوص)2
وابن رشد هوالذي رأى أن يكون النص الديني موافقاً لمقتضيات العقل، وإذا لم يكن كذلك فإن العقل مدعو إلى تأويل النص الديني والبحث عن المعنى الباطن فيه خلف الظاهر، بحيث يتوافق مع العقل، وفي هذا يقول: (ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل...والسبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن هواختلاف فِطَر الناس وتباين قرائحهم في التصديق.والسبب في ورود الظواهر المتعارضة منه هوتنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينهما.وإلى هذا المعنى وردت الإشارة بقوله تعالى:( هوالذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات.. إلى قوله تعالى..والراسخون في العلم.)3
وابن رشد صاحب المقولة الشهيرة التي صارت مثلاً (إن الحق لا يضاد الحق) فالنص الديني حق والنظر العقلي حق، ويستحيل أن يتناقضا، وهوالذي قارع فلاسفة عصره من المحافظين المعادين للعقل وعلى رأسهم (الغزالي) الذي عد التفلسف كفراً، ووضع كتابه الشهير- تهافت الفلاسفة - مساوياً فيه بين الفلسفة والكفر، فرد عليه ابن رشد في كتابه- تهافت التهافت- وبناه على أن (قصد الفلاسفة إنما هومعرفة الحق، ولولم يطن لهم إلا هذا القصد لكان ذلك كافياً في مدحهم..) على حد قوله.. ومن هذا المسار يتبين أن هذه العلاقة كانت محور التفكير الفلسفي ومركز الاهتمام في الثقافة العربية الإسلامية على مر العصور، وأنها أشبه ما تكون بإشكالية - الأصالة والمعاصرة- في الفكر العربي الحديث والمعاصر.
لقد كان الموقف من العلوم العقلية في الماضي أشبه ما يكون بالموقف من الحداثة في الحاضر الراهن.كان هناك موقفان:
-موقف الرفض لعلوم الأوائل ويوازيه أوما يماثله ما يسمى اليوم بالسلفية.
-موقف القبول بتلك العلوم، خاصة الفلسفة منها كمرجعية عليا للفكر والسلوك: مرجعية تفسر الدين وتقدم حقيقة ما عبر عنه بـ- المثال- وتعطي البراهين لما تَقَرّر فيه من غير برهان، إنها الحداثة، باعتبار أن الحداثة لا تعتبر بمرجعية أخرى غير العقل، لكنها لا تخلومن نوع من الاغتراب في فكر الآخر.
ذلك أن ما يمكن أن يؤخذ على أصحاب هذا الموقف الأخير هوجهلهم النسبي لتلك الحقول الواسعة من الفكر الديني الإسلامي والتي كانت تنمووتتسع وبالتالي تتعمق سلطتها في كافة الميادين.
أما الطرف الآخر الرافض لعلوم الأوائل، فلقد كان رفضه أيديولوجياً سياسياً في الغالب، الشيء الذي حال دونهم ودون الاستفادة من ظاهرة حوار الثقافات الذي بدونه لا يمكن تعزيز الخصوصية ونقلها إلى المستوى الذي تصبح فيه ممثلة للعالمية.
وفي كتاب - مناهج الأدلة- يدافع ابن رشد دفاعاً مجيداً عن حرية الإنسان وهوالذي توقف كثيراً أمام وضع المرأة بوصفه علامة أساسية على تقدم المجتمع أوتخلفه، ولكن لهذه الحرية حدوداً تتمثل بقوانين الطبيعة والمجتمع وبقوانين جسدنا.
ولأن ابن رشد فتح باب العقل على مصراعيه لا أمام أوروبا وحدها، وإنما أمام العالم كله قررت المدرسة العليا في باريس عقد ندوة موسعة للمتخصصين في القرون الوسطى للرد على كتاب المؤرخ سيلفان كوجونهايم (أرسطوفي مون سان ميشيل) الذي أنكر فيه فضل ترجمة ابن رشد لمؤلفات أرسوونقله لعلوم اليونان. لأنهم وجدوا هذا الكتاب مليئاً بالمغالطات، وتنبعث منه رائحة العنصرية المقيتة، ووقع عدد من الباحثين والطلاب عريضة يطالبون فيها بفتح تحقيق مع المؤرخ الذي أنكر فضل ابن رشد والفلسفة الإسلامية العربية، وذلك بعد أن وضع أجزاء من كتابه على شبكة الانترنت في مواقع معادية للأجانب وخاصة للعرب والإسلام، ووصفوا أفكاره بالعنصرية الثقافية قائلين: سيراً على عقلانية ابن رشد ذاتها التي توارثتها الأجيال (إن المدرسة العليا في باريس مؤسسة علمانية تتبنى مبادئ الجمهورية والإنسانية، ولا يمكن لها أن تقبَّل مسؤولية أفكاره الأيديولوجية، فمهمتها هي البحث العلمي...). وما أحوجنا الآن عرباً ومسلمين لإعادة قراءة ابن رشد، لنتدارك بعضا من تخلفنا.
إعادة النظر ليست إلحادا.
فريال الحوار
الرياض- المملكةالعربيةالسعودية
1-ابن رشد.فصل المقال.مركز دراسات الوحدة العربية.إشراف د.محمد عابد الجابري.ط 2007.ص97.ص98.
2-المرجع السابق.ص89. ص90
3-ابن رشد. تهافت التهافت.تحقيق سليمان دنيا.دار المعارف.القاهرة1964.ص409.