الوصاية الاجتماعية، مفردة وجد الكثير من كتاب المقال في حق الانتفاض عليها مكانا ومكانة لهم، ضربوا الأمثلة عنها في التحذير من مصادرة العقل باسم الدين من قبل الدعاة على الناس وباسم القوامة من قبل الرجال على النساء وأخيراً باسم التنوير من قبل المثقفين على العامة، وكثيرا منا كقراء ندين لكتاب المقال وعينا بعملية الوصاية ومدى آثرها على حياتنا الفردية والإجتماعية سواء، فماذا بعدها؟ سؤال موجه للكتاب عن الخطوة التالية في عملهم التوعوي للمجتمع...
...سؤال يسبقه استفهام قد يحمل الجواب: إلى ماذا تنتمي عملية الوصاية؟ إلى فكرة ثقافية، أو نزعة رجولية أم سمة دعوية، ثلاثة عوالم يمكن للكاتب أن يكون أحدها، وألا يكون داعية أو مثقفا أو رجلا، فلا يعني أنه لن يمارس الوصاية بل ويتقنها، (الكاتب الوصي) هو افتراض أساسي يحاول الإجابة، فالوصاية سلطة معرفية تمارس حكمها على العقول، تأخذ حينا بوعي وإرادة مسبقة كما في الوصاية المالية، وتمارس غالبا دونما وعي صاحبها أنه يقوم بدور الوصي، كما في الوصاية الاجتماعية، وهو الذي ألمح إليه كتاب المقال فأخبرونا أن الداعية حين يكثر من الفتوى إنما يرغب دون أن يقصد تعطيل الناس عن قدرة التفكير بشؤونهم الدينية إلا بالرجوع إليه واستفتائه كي يحفظ لنفسه وظيفته وقيمته بينهم، وأن الرجل حين ينكر على زوجه حقها في قيادة السيارة رغم رغبته بالتخلص من أعبائها فلأنه دون وعيه أيضا يخاف أن تكف عن حاجتها إليه فيفقد قيمته لديها، لنخلص من هذا إلى أن خوف الوصي على قيمته الاجتماعية هي سببه الأول ودافعه الأقوى لفعل الوصاية، رغم أنه لا يدرك أن خوفه على مكانته هي الدافع للسلطة قدر مايعتقد أن خوفه على الأخر هو الذي يحفزه، فخوف الرجل على زوجه من السفر وحدها مع كل هذا اليسر والوضوح في شؤون السفر وترتيباته ليس إلا ستارا لخوف آخر، فإدراك قيمة الرجولة بأنها العكس من الأنوثة وأن قدرة الرجل هي في الأمور التي لا تستطيعها المرأة يجعله يخشى إذا هي استطاعت القيام بأمر هو يستطيعه أن تفقد احتياجها له فيفقد لديها قيمته ويخسر مسؤولياته الرجولية وقوامته عليها، كما أن تشنج المثقف الحاد من بعض الفنون باعتبارها هابطة وتحط من الذوق العام ليس خوفا خالصا على المجتمع بقدر ماهو خوف على بضاعته من الكساد وعلى قيمته بين الناس لآن الفنون لا تحط من الذوق قدر ما تعكسه، ولا تسبب منزلقا هابطا قدر ماتنتج عنه، فالقوامة والثقافة مفاهيم لا تحصن صاحبها من دوافع الذات وحب الأنا كطبيعة إنسانية، كما وأن الوصاية سلطة معرفية غير واعية تكسب صاحبها حق التأثير على الآخر تحت وصايته من حيث هو أقرب إلى الحقيقة وأعرف بالمصلحة وأقدر على الاختيار، وإذا ما تصفحنا سريعا عناوين المقالات ومواضيعها الأكثر تناولا فسنجد فسحة للدهشة من مدى المصادرة التي مارسها الكتاب علينا كقراء، ولعل المثال الأقوى والأوضح كان في ماكتب عن الترهيب الديني من التلفزيون ببثه الرقمي المفتوح كأول معركة حامية للكتاب ضد الدعاة بأن عليهم أن يخلو بين الخلق وبارئهم وأن الناس لهم في عقولهم حق الاختيار من دنياهم ما ينفع سلوانا للنفس دونما مفسدة، لقد كان في هذا المثال ماقد يصح اعتباره دلالة تأسس ثقافة الوعي في الوصاية الاجتماعية بوجهيها، أولاها أن الناس ابتدئوا يرفضون وصاية الدعاة عليهم، وثانيها ما تحقق لكتاب المقال بأن يأخذوا مكان البديل كوصي على المجتمع دون وعينا كقراء، فصارت الفتوى التي نريدها من الداعي فكرة ونقدا نريده من الكاتب , وصارت الشرعية التي يضفيها الدعاة على أعمالنا تزكية يضفيها الكتاب على آرائنا، وصرنا بدل الرجوع إلى الداعية نرجع إلى الكاتب، فما الذي حالت إليه المرحلة بعد ذلك، المقالات التي شكلت وعينا برفض مصادرة التلفزيون تحذيرا باسم الخوف على الايمان تحولت الى مقالات تحذرنا من برامج محددة كالمسلسلات المدبلجة لكن هذه المرة باسم الخوف على المجتمع من خطر ثقافة الاخر عليه! وصار الرفض للداعية قبولا للكاتب، لنكتشف أن حملة التوعية في المقالات كانت ضد الوصي كفرد وليس ضد الوصاية كسلطة، لذا ذهب الدعاة لكن دور السلطان بقي ليشغله الكتاب، وبقاء الدور ابقاء للسلطة، فماذا بعد؟ هو السؤال الموجه لكتاب المقال عن خطوتهم التالية، فهل سننتظر منهم الإجابة حقا! أم أن في زيادة الوعي ماسيكفل بقية الأجوبة وليس هذا فقط، إن انتهاء الوصاية كسلطة معرفية تتداولها شريحة تلو أخرى مرهون برفض الدور أنما كان شاغله وبرفض المعرفة أنما شكلت سلطة يحكم بها البعض على الكل، لأن السبب الذي نافح به الكتاب عن حق الناس في الانفتاح التلفزيوني كان بأن الطريق بين الخلق وبارئهم تسلك بمسؤولية الفرد وعقله، ثقة من الكتاب بقدرة الأفراد على طاعة الله دون ارشاد الداعية، سيكون هو ذاته السبب الذي اخفاه الكتاب من أن الطريق بين الخلق والخلق تسلك هي أيضا بمسؤولية الفرد وعقله، لكنه أخفي عنا لأن الكتاب لايثقون هذه المرة بقدرة الأفراد على التعارف مع الآخر إلا من خلال ارشادهم ورأيهم كوصايا على المجتمع، فالهجوم الحاد ضد المسلسات التركية المدبلجة تحديدا حمل كثيرا من التسفيه لذائفة المتابع وكثيرا من النقد للمجتمع بشكل تجاوز حق الناس في حرية اختيار وسائل ترفيههم، نقداً مبالغاً في وصفه جماهيرية المسلسل بحالة اجتماعية تستحق المعالجة حتى وصل بعض الكتاب إلى تأولات للواقع تفوق في تفسيرها (هوس التابوهات)، سبب واحد عجز الكتاب أو غفلوا عن قراءة وجهه الآخر فقط لأنهم شغلو دور الوصي وكان خوفهم على رأيهم من أن لايعتد به هو خوف على قيمتهم التي اكتسبوها وهو بالنتيجة الدافع وراء الوصاية علينا، وقع الكتاب فيما حذروا منه، ونحن كقراء سنقع دائما تحت سلطة الآخرين طالما سلمنا معرفيتنا لآخر ينوب عنا في التفكير، فالوصاية مثالا وليست حصرا للسلطة المعرفية، والوصي ليس إلا دور واحد فقط، وعلينا دائما أن نراجع طريقة تفكيرنا لنعرف هل تعمل بحرية أو أن سلطة ما تمارس حكمها عليها، فكما هو الكاتب والداعية والمثقف دور يمارس سلطته ثمة اشياء تمارس سلطتها بدورها هي كذلك وأولها قد يكون في هذا المقال، وكذلك هي التيارات الفكرية مجموعة مبادئ وآراء تمارس السلطة، وكرة القدم متعة تمارس سلطتها على الجماهير، والحب عاطفة تمارس سلطة أشد خطرا لأنها الأكثر غواية، كما أن السلطة المعرفية مع الزمن ستذهب أبعد من مجرد كونها أدوار اجتماعية تمارس وصاية وحكما، لتشكل من حيث لم ننتظر مرجعية حياتية تسن القيم وتشرع القوانين، من هذا ليس للوعي الذي حققناه ولا لإدراكنا الدور السلطوي الذي مارسه الكتاب أن يشكلا حدا أقصى يكفل حريتنا في التفكير أو يكفيه، لأن الوعي مجموع أعمال معرفية تراكمية ومستمرة وليست إطار وحيد لعملية وحيدة مفردتها (الوصاية الاجتماعية).
Lamia.swm@gmail.com