لقد كانت خسارة السيد فاروق حسني في معركة اليونسكو وفوز السيدة ايرينا بوكوفا برئاسة المنظمة بواحد وثلاثين صوتا مقابل سبعة وعشرين صوتا للسيد فاروق حسني بعد أن كان متقدما في الجولة الأولى والثانية، لتصبح ايرينا بوكوفا أول سيدة تترأس منظمة اليونسكو صدمة للكثير من العرب الذين راهنوا على فوزه برئاسة منظمة اليونسكو فهو يملك الدعم السياسي والثقافي اللازمين إضافة إلى أنه يتحلى بشخصية مميزة ويملك علاقات خاصة برؤساء ووزراء الكثير من الدول الأوروبية...
....وينتمي إلى شعب يملك تراثا ثقافيا وعلميا عالميا، وهو أيضا ينتمي إلى حكومة لها علاقات رسمية وطيبة مع إسرائيل؛ لذلك راهن الكثير على فوزه في معركة اليونسكو،لكنك تشعر حينا أن حاصل الرهانات العالمية تفتقد المنطق وأن المنطق لم يعد هو الكفاءة التي تستند إليها في تصميم أفق موضوعي لتوقعاتك نحو الأمور وهي ظاهرة مقلقة في عمومها،مقلقة لأنها تفقدنا الثقة في عقلانية القرار العالمي عندما يُلغى أثر الاعتبارات والحيثيات والمعطيات التي تُطبق من خلالها المقاييس العقلية في علاقات التأثر والتأثير لمصلحة استراتيجية النفعيات ومصدر قوة القطب الواحد.
خسر العرب معركة اليونسكو للمرة الثانية! ولكن المرة الثانية تختلف عن المرة الأولى؛تختلف لأن قواعد لعبة المقايضة هذه المرة واضحة بل سافرة إلى درجة التبجح،وأدرك العرب أو يجب أن يدرك العرب أنهم لن يحصلوا على منظمة اليونسكو إلا مقابل موافقتهم على التطبيع مع إسرائيل ودخول إسرائيل المجلس التنفيذي للمنظمة.
صحيح أن أسباب خسارة السيد فاروق حسني خارج ذلك الإطار قد تكون منطقية، فهو وزير قادم من مؤسسة ثقافية شاع فيها الفساد الإداري مما شكك في كفاءته على تحمل مسئولية رئاسة المنظمة، إضافة إلى اتهامه من قبل الحكومة الأمريكية بممارسته كوزير للثقافة نظاما رقابيا صارما يحدّ من سقف الحرية الفكرية في مصر وهو أمر يتعارض مع عقلية أي مرشح للمنظمة.
وهما سببان قد يكونان ستارا مجازيا أو حقيقيا لحجب الثقة عن السيد فاروق حسني كانت نتيجته حصوله على سبعة وعشرين صوتا مقابل ثلاثين صوتا للسيدة ايرينا بوكوفا.
ولو ابتعدنا عن سببي خلفية ذلك الستار،فالسبب الثالث هو تصريحات السيد فاروق حسني عن اليهود التي اُعتبرت معاداة للسامية وممارسة للعنصرية،ورغم اعتذاره المتكرر عنها بأساليب متعددة، إلا أن تلك الاعتذارات لم تستطع أن تُثبت حسن نية السيد فاروق حسنى نحو اليهود وتقديره للثقافة اليهودية، بل ساهمت في اضطراب صورته في الرأي اليهودي العالمي وأصبحت نتيجة هذا الاضطراب الآن واضحة.
أكرر أن تلك الأسباب قد تكون منطقية بما فيه الكفاية ليخسر أي (مرشح عربي) معركته في اليونسكو،ولا تُعد منطقية بما يكفي بالضرورة لأي مرشح (غير عربي) ليخسر المعركة في اليونسكو.
إذ إن الرهانات العالمية كما أحسب غير ملزمة بتنفيذ كفاءة المنطق على مستوى حاصلها في وجود مسار يحتوي على بنية ذات منطقية خاصة تتحكم فيها استراتيجية النفعيات السياسية ،لنظل نحن العرب بمفردنا من يؤمن بفلسفة العقلانية ومقتضياتها وتُطبق عليه أيضا.
إذن نحن أمام اعتبارات غير منطقية للفوز والخسارة في هذه المعركة، اعتبارات تعتمد على حسابات استراتيجية نفعية خاصة وأحادية تريد أن تفرضها على الجميع ملغية كل خصوصية تاريخية ووجدانية للآخر.
إن اليونسكوكما وصفها فاروق حسني هي (لعبة يهودية) و(مُسيسة) وتتحرك وفق"ضغوط صهيونية) وأنا أعتبرها"كازينو للقمار) له قواعد وشروط والذي يملك التحكم في تلك القواعد والشروط هو اللوبي الصهيوني، وإذا أردنا أن ندخل إلى ذلك الكازينو ونكسب علينا أن نخضع لقانونه الثقافي والفكري، وذلك القانون الثقافي هو (التطبيع مع إسرائيل) فيجب أن ندرك أن رفض العرب التطبيع مع إسرائيل سيظل العقبة التي تقف في طريق كل مرشح عربي لمنظمة اليونسكو وأن الموافقة على التطبيع ستفتح للعرب أبواب كل المنظمات العالمية.
كما أن مسألة "التطبيع مع إسرائيل) يجب أن يعاد فيها النظر من قِبل العرب بعيدا عن التشنج الوجداني وبما يتناسب مع الحقائق الموجودة على أرض الواقع ومنطق توازن القوى في المنطقة العربية.
كما أن رفض العرب التطبيع مع إسرائيل لا يمثل ورقة ضغط عليها كما يتوهم العرب ودفعها إلى الاستجابة لشروطهم السياسية، ونصبح سذجا إن آمن بهكذا مبدأ، بل العكس رغبة إسرائيل في التطبيع مع العرب هي التي تشكل ورقة ضغط على العرب في كل المحافل والقرارات العالمية فهي بموجب ذلك الضغط تمنح وتمنع، والعرب بموجب ضغطهم لا يمنحون ولا يمنعون.
لست من أنصار التطبيع مع إسرائيل وفي ذات الوقت لست من المعارضين للتطبيع لكني من أنصار التحالف مع الشيطان من أجل مصلحتي، وأظن أن العرب اليوم مصلحتهم مع الشيطان أقصد مع التطبيع مع إسرائيل ضمن أدنى حدّ ممكن.