أعجبني قول أبي العلاء المعري:
|
هذا جناه أبي عليِّ |
وما جينت على أحد |
|
لِماَ تُؤْذِنُ الدنيا به من صروفها |
يكون بكاء الطفل ساعة يولد |
لما فيهما من المعاني العميقة والملاحظات الدقيقة، يخرج المولود من بطن والدته بعد معاناتها الشديدة لمدة تسعة أشهر عار يعول بصوت عال والحضور حول أمه يهللون ويكبرون ويظهرون الفرح الغامر خاصة إذا كان المولود ذكراً.
|
إنها مفارقة عجيبة تدعو للتأمل، هو يبكي حزناً على قدومه إلى دنيا الشقاء وعالم العناء، بغير إرادته وعلى غير رغبته ومن بجواره من الأهل والأقارب مبتهجون يملؤهم السرور بما أوتوا من ذرية ستخفف عنهم - كما يحلمون - لأواء الدنيا، وتدفع عنهم بعض عنائها، وتعاونهم على احتمال مشقاتها وتشاركهم الآلام التي تملأ في العادة حياة الأنام، وما دروا من سيشارك من؟ ومن سيخفف عن من؟ ومن سيعين من؟
|
هذا المولود هو حصيلة (جناية لذيذة) ارتكبها الأب في لحظات قصيرة من الانسجام (الحلال) سيدفع المولود أو المولودة الجديدان ثمنها إلى أن يتوفاهما الله بعد عمر طويل أو قصير، من غير أن يرتكب أحدهما جريمة يستحق عليها العقاب، الأب أمضى وقتاً عابراً ولكنه ممتع وكفى، والأم بدأت تعاني من الحمل الذي امتد وقته وطال، أما الابن والابنة فقد أمضى كل منهما شهور الحمل الطويلة في ظلمات الرحم (المنير) ليهبطا بعدها إلى أنوار الدنيا (المظلمة)، ثم لتسير بهما سفينة الحياة في بحر لجيّ من المآسي والمحن، وفي محيط متلاطم من المشاكل والإحن، يغلبها كل منهما وتغالبه، فتغلبه أياماً ويغلبها يوماً أو بعض يوم، يستمر هذا ويتواصل إلى أن يحين الرحيل وتعرج روحه إلى بارئها ويواريه التراب، أمراض في الأجسام، ومتاعب للنفوس، وعقابيل للفقر وأخرى للغنى، آمال تخبو ولا تتحقق، وأحلام يئدها الفشل وتخلف الحسرة، وومضات (قصيرة وقليلة) من السعد والسعادة، وأوقات (طويلة وكثيرة) من العذاب والألم، هذه هي مسيرة حياة كل الناس، علا شأنهم وارتفع، أو هبط ووقع، شاع ذكرهم وذاع أم خمد وضاع. ولا شيء أكثر من ذلك، إذا ابتهجوا فيها سرعان ما يداهمهم الحزن ويطيح ببهجتهم، وإذا أملوا فاجأتهم الأحداث بتدمير آمالهم، سويعات فرح في ليل طويل داهم حافل بالأحزان والإحن، ودامس مليء بالأسى والشجن، بسمة فرح لا تلبث أن تختلط بزفرة حزن في مزيج لا لون له ولا طعم ولا رئحة.
|
|
فالمرء يجمع والزمان يفرق |
ويظل يرقع والخطوب تمزق |
ثم تأتي النهاية فتصعد الروح بدون استئذان إلى بارئها وترد الوديعة إلى صاحبها:
|
الروح فيك وديعة أودعتها |
ستردها بالرغم عنك وتسلب |
موت محقق، كل نفس ذائقة الموت، ولا مهرب من الله إلا إلى الله، ولحد ينتظر الزائر الذي ستطول إقامته وتراب كان يمشي الميت عليه فأصبح يهال فوقه، وأقارب يبكون، وأطفال أيتام مذهولون منتحبون وأرامل ملتاعات، ومعزون محزونون أو يظهر بعضهم أنهم محزونون، ثم ينزلون الجثمان الهامد الصامت الذي ملأت البسمة وجهه لأنه غادر هذه الدنيا البائسة وأنهى رحلة العذاب فيها إلى وضع أخروي لن يكون - برحمة الله - أسوأ أبداً من (رفاهية) حياته التي (قاساها) سنين طوالاً، وقد لف في كفن متواضع أبيض بلا جيوب، لم يحكه كريستيان ديور، ولم يضع عليه لمساته الفنية أي مصمم أزياء بارع، لقد ترك وراءه كل ما يملك، وجميع ما أفنى حياته الطويلة في جمعه، تركه في لحظة واحدة ولسان حاله يردد قول أبي نواس:
|
غيرماً سوف على زمن |
ينقضي بالهم والحزن |
|
وغرور دنياك التي تسعى لها |
دار حقيقتها متاع يذهب |
وجميع ما حصلته وجمعته |
حقاً يقيناً بعد موتك ينهب |
تباً لدار لا يدوم نعيمها |
ومشيدها عما قليل يخرب |
|
يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً |
بالله هل لخراب الدهر عمرانُ |
ويا حريصاً على الأموال تجمعها |
أنسيت أن سرور المال أحزان |
دع الفؤاد عن الدنيا وزينتها |
فصفوها كدر والوصل هجران |
وارع سمعك أمثالاً أفصلها |
كما يفصل يا قوت ومرجان |
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم |
فطالما استعبد الإنسان إحسان |
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته |
أتطلب الربح مما فيه خسران |
|
لكل شيء إذا ما تم نقصان |
فلا يغر بطيب العيش إنسان |
هي الأمور كما شاهدتها دول |
من سره زمن ساءته أزمان |
|
وما الدهر إ لا صدر يوم وليلة |
ويولد مولود ويفقد فاقد |
وقول أحد الحكماء في وصف الدنيا: (هي سنيات رخاء، وسنيات بلاء، يولد مولود، ويموت ميت، ولولا المولود لباد الخلق، ولولا الميت لضاقت الأرض)، حقاً إنها أرضون تبلع، وأرحام تدفع، يرقد الميت في قبره جثة هامدة بلا عقل ولا قلب ولا تفكير ولا شعور ولا إحساس ولا حيلة ولا قدرة على التلاعب والمناورة والمداورة والمطاولة، وبدون ظاهر معلن وباطن مضمر،
|
فهو لا يستطيع أن يخفي شيئاً ويظهر ضده كما كان يفعل حياً، له في المقبرة جيران كثيرون يرقدون حوله في أجداثهم صامتين لا يحيونه أو يحدثونه أو يمازحونه أو يضاحكونه أو يواسونه في الأتراح أو يهنئونه في الأفراح، كصنيعهم في حياتهم، حفرة موحشة مظلمة ضيقة ليس فيها صديق يؤنسه، ولا رفيق يمتعه، ولا خليل يخالطه، ولا خل ينادمه، ولا ابن يحدب عليه، ولا ابنة تدعو له، ولا مرؤوس يطأطئ رأسه له ويأسره، ولا رئيس يستعبده ويخضعه لأوامره ونواهيه، فلم يعد والحالة هذه محل من الإعراب لقول الشافعي أو ابن لنكك:
|
يعاف الذئب يأكل لحم ذئب |
ويأكل بعضنا بعضاً عيانا |
هو جثمان مُسجَّى تتلى عليه الآيات البينات المنزلات شفاء لمن عاش، ورحمة بمن رحل، ورأفة بمن أطاع وكذلك بمن عصى (إن شاء الله) فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولطف الله ورحمته مقدمان على عدله وعقابه كما يقول النساك الزهاد الأتقياء:
|
أنا أحب أن أتمثل دائماً بقول نواس (منوهاً بعقيدته الثابتة): (غفر الله لي بأبيات قلتها في النرجس وهي:
|
تفكر في نبات الأرض وانظر |
إلى آثار ما صنع المليك |
عيون من لجين شاخصات |
بأبصار هي الذهب السبيك |
على قضب الزبرجد شاهدات |
بأن الله ليس له شريك) |
بقوله أخيراً (مستغفراً عن ذنوبه العارضة):
|
يارب إن عظمت ذنوبي كثرة |
فلقد علمت بأن عفوك أعظم |
إن كان لا يرجوك إلا محسن |
فبمن يلوذ ويستجير المجرم |
إن المفارقة بين ساعة الميلاد ولحظة بلوغ الروح الحلقوم تتوأم مع قول أبي العلاء:
|
غير مجد في ملتي واعتقادي |
نوح باك ولا ترنم شاد |
وشبيه صوت النعي إذا قيس |
بصوت البشير في كل ناد |
ومع قول أبي الحسن التهامي يعزي نفسه بعزيز لديه:
|
حُكم المنية في البرية جارٍ |
ما هذه الدنيا بدار قرار |
فالعيش نوم والمنية يقظة |
والمرء بينهما خيالٌ سار |
جاورت أعدائي وجاور ربّه |
شتان بين جواره وجواري |
|
إنا لنفرح بالأيام نقطعها |
وكلُّ يوم مضى يُدني من الأجل |
ومع قول أبي العتاهية يرثي ابنه:
|
بكيتُك يا بني بدمع عيني |
فلم يُغنِ البكاء عليك شيّا |
وكانت في حياتك لي عظات |
وأنت اليوم أوعظ منك حيا |
وفي حياة (التقاعد) شيء من الراحة، وبعض الطمأنينة، لأنها البرزخ بين الكسوف والخسوف، نعبره في تؤدة أو على عجل إلى حيث الغروب الأخير، وبعده تنتهي تماماً الرواية، سواء امتدت أو قصرت الحكاية، (وينفخت الدف ويتفرق العشاق) كما يقال، ويصبح صاحبنا في خبر كان، ويبدأ رحلته النهائية إلى عالم النسيان، وكأن أحداً لم يكن، وكأن شيئا لم يحدث، وتستأنف الحياة مسيرتها بدونه، فلكل دولة زمان ورجال، وتعود الموسيقى لتصدح في منزله، وكأنه لم يرحل منه راحل، ولم يغادره مفارق، هذه هي الحياة، لوحة (سريالية) مفهومة، ولكنها ملغومة.
|
وفي إطار هذا الحديث الحزين لا يسعني إلا أن أترحم على ثلة طيبة من الأحباب، ذهبوا بلا إياب، وغادرونا إلى ما عند ربهم من رحاب، ومع أنهم رحلوا منذ سنوات، فإني مازلت إلى اليوم أحيا تحت وطأة الشعور المحض بأن رحيلهم قد حدث بالأمس، وكأنني أعيش حلما في سبات، ومن هؤلاء الشيخ محمد الصالح العيسى، والأساتذة عبدالله الحمد القرعاوي وعبدالله الإبراهيم الجلهم وسعد إبراهيم أبو معطي، والدكتوران عبدالله الناصر الوهيبي وحمد إبراهيم السلّوم، رحمهم الله، هؤلاء الذين خلفوا باقة طيبة النشر من الأبناء البررة، والذكر الحسن، والعمل الصالح، والإنتاج المفيد، والسيرة المعطرة بالخُلُق الراقي وبالدماثة الجميلة.
|
هذه كلمات نثرتها في رثاء النفس وهي مقبلة على ما لا بد منه، تسعى حثيثا إلى (نُزُلها) الأخيرة وهي خواطر وتأملات، في فلسفتي الحياة والممات، أهديها (لمن يقبلها) مع دمعة حرى على خد الزمن الحزين، ولسان حالي يردد:
|
أزف الترحل غير أن ركابنا |
لما تزُل برحالنا وكأن قَدِنْ |
وأخيراً أحمد الله على أن خلق المصيبة وأردفها بالنسيان، وإلا لكان توقف دولاب الحياة عن الدوران، ولفّت الخلق الأحزان، في كل زمان ومكان، واستمروا ينتحبون، وعلى الفقيد يبكون، بمنتهى الالتياع، وبدون انقطاع، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|
أ.د. عبدالكريم محمد الأسعد |
أستاذ سابق في الجامعة |
|