Al Jazirah NewsPaper Thursday  01/10/2009 G Issue 13517
الخميس 12 شوال 1430   العدد  13517
المثقف وإحباطات المساواة
لمياء باعشن

 

من أراد الدخول إلى الساحة الثقافية فليتفضل: الباب مفتوح تعلوه عبارات الترحيب. فإذا دخل فليتبوأ مقعده حيث يشاء، فليس للثقافة مدرجات ولا صفوف أمامية ولا خلفية. وليتنقل الداخل كيف يشاء بين مواقع الثقافة، فله كل الحرية أن يكون شاعراً أو روائياَ أو كاتب قصة أو مقال أو مترجم أو صاحب فكر أو ناقد أو فيلسوف

ذلك أن الثقافة بأكملها شجرة قطوفها دانية، فليقتطف منها ما يحلو له وليغير جلده مرة ومرات. وليبقى داخل الساحة ما شاء، أو ليخرج وقتما شاء، فليس للثقافة حجّاب يرحبون، ولا بها رفقاء يفْتَقدون.

من أراد التواجد في الساحة الثقافية فليكتب ولينشر ما يروقه، ثم ليوزع مطبوعه على من أراد أن يُحدث له زوبعة صغيرة تضمن له مراجعة وعرض في صحيفة وربما يتبعه لقاء حواري.

بعد حين سيستضيفه الراديو وبعده التلفزيون المحلي، ثم يأتي النصر الكبير حين يظهر على شاشات القنوات الفضائية. ولعله يستطيع أن يتمالك نفسه فلا ينفجر فخراً ظناً منه أنه الوحيد الأوحد في الساحة، فما جرى له يجري لكل الداخلين إليها على السواء.

كل من دخل إلى الساحة يتلقى عروضاً بالكتابة في الصفحات الثقافية، فيجتهد أو لا يجتهد ليشارك في عملية التحبير الثقافي ويصُفّ الكلام في عموده الخاص، فيشار إليه بالبنان كما يشار إلى غيره من السابقين واللاحقين، فعموده يتموقع في المقدمة أو المؤخرة من الصحيفة، إلى جانب الأولين أو بجوار الآخرين، وسواء كتب صفحة باهتة أو صفحات ثرية، فلا وقع لما يأتي به، والصحيفة غير آبهة حقيقة، خاصة لو أنه كتب دون مقابل مادي!

والمقابل المادي حكايته حكاية، فالصحيفة قد تعطي الكاتب شيئاً من المال هو دائماً موصوف ب(المكافأة الرمزية)، ومهما علا شأن هذه المكافأة فهي لن تخرج من إطار الرمز الضئيل، وتبقى المكافأة مهما تقدم الكاتب أو تأخر كما هي صغيرة في ذاتها وترمز فقط لما هو خارجها من المال المجزي. والمثقف هو الوحيد الذي يفقد الكثير من الاحترام إن طالب بالمال إزاء جهوده، فالمفترض أنه يتعالي عن الماديات كلها وأنه يسمو بعقله المفكر الراقي عن الاحتياجات الدنيوية الصغيرة، وإن هو ناقش وطالب يوصم بالطمع والجشع. كل هذا والصحف تحتكر كتابها ولا تسمح لهم بالكتابة في صحف أخرى دون عقود أو التزامات، وإنما هو عرف يخنق الكتاب ويضيق عليهم ويحاصرهم، ثم يمنحنهم مكافآت (رمزية) لا تفرق بين أحد منهم.

وحين يكتشف المثقف طريقه إلى الأندية الأدبية يكون قد وصل إلى المنابر الرسمية التي تضعه في مصاف النخب، فينتفخ رأسه مرة أخرى، ثم يعود فيتضاءل خجلاً حين يكتشف أن في المكان متسع للجميع: النوادي الأدبية تهدف إلى الاستقطاب وتدعو الناس للحضور والمشاركة بأي شكل من الأشكال، فمهمتها نشر الوعي والوصول إلى كل الطبقات المجتمعية. في كل ملتقى ينفش المثقف ريشه ليجد نفسه محاطاً بالكل والجميع، وإن فاته ملتقى فالأمر ملحوق: في ملتقى غيره سيجد من تأخر مثله من الكل والجميع. الأوراق المقدمة في تلك المنابر لا تخضع للتحكيم، وحين يُقبل أكثرها يُعطى المتحدثون نفس المساحة الزمنية لإلقاء الورقة، ونفس الوقت للرد على المداخلات، وبعدها ينال نفس المكافأة الرمزية. ينظر الداخل حوله ليجد المتمرس وحديث العهد، الأكاديمي وصاحب الاطلاع الذاتي، النشيط والمتكاسل، المبتكر والتقليدي، الناضج صاحب المشروع والمبتدئ الذي حضر للتو، كلهم يحيطون به، ويلقون أوراقهم جنباً إلى جنب، ثم يبدأ التوزيع العادل للأظرف التي تحمل المكافأة المُرمّزة.

جميع الأنشطة الثقافية المنبرية في داخل الوطن وخارجه محكومة بقانون واحد، هو:

(قانون اشمعنى) القائم على مبدأ التكافؤ الشمولي الذي لا يستثني أحداً سلباً أو إيجاباً. لا يأمل الداخل إلى الساحة الثقافية في تقدم أو ترقية أو تزكية من أي نوع فالمثقفون سواسية، لا فضل لكبير على صغير ولا لأستاذ على طالب ولا لمبدع على تكراري ولا لمتألق على متواضع.

ما يكتبه الداخل إلى الساحة الثقافية سيضمن له لقب كاتب أو أديب أو مبدع، وهذا سيجعله موضوعاً للدراسات العلمية في رسائل الماجستير والدكتوراه ناهيك عن أوراق المنتديات والملتقيات التي تدور حول ما يكتب هذا وذاك دون أدنى تمحيص، كما أنه سيُدرج في كل الكتب الإحصائية التي تؤرخ لحركة الأدب بمسح المطبوعات الإبداعية وتسجيل وجودها وتوثيقه، هذا إضافة إلى أنه سيحظى بمدخل في كل الأعمال الموسوعية التي ستسبغ على وجوده الثقافي صبغة الرسمية وتضعه على خارطة الأدب إن عظمت قيمة عطاءه الفكري والفني أو قلت إلى حد الانتفاء، وهذه كلها حقوق مشروعة لأي شخص قرر دخول الساحة حاملاً قلماً.

كل داخل إلى الساحة الثقافية إسمه مكتوب ومكانه محجوز، وإلا قامت الحروب واشتدت الاعتراضات وارتفعت اتهامات الإقصاء والشللية. تخرج الدعوات إلى أهم الأنشطة الثقافية بشكل عشوائي يضمن المساواة، فالمدعوين لفعاليات الجنادرية أو معرض الكتاب أو سوق عكاظ لا يمكن وصفهم بالصفوة، لأن الساحة لا تسمح بالاصطفاء وتحارب النجومية وتمقت التميز. هكذا هي مسيرة الثقافة: صف متساو يضع قدمه على خط واحد ولا يعترف بالتقدم الفردي، وإن بدا أن أحداً قد برع وذاع صيته داس الباقون على طرف ثوبه ليقع فيجهضون مشروعه، وهاجموه ليعيدونه لصفهم الموحّد مخذولاً ويواصلون مسيرة كمية لا نوعية.

الداخل إلى الساحة الثقافية لا ينتظر حفل التخرج، هو نفسه لا يعرف إلى أي مرحلة وصل ولا يملك معياراً لقياس مدى تقدمه أو ثباته أو تراجعه: مرجعيته الوحيدة هي ذاته، ينغلق عليها ويتقوقع في عزلته. يسمع النقد الجاد فيثور ويدفع عن ذاته التهم الجارحة بحجة ضعف القُرّاء، ويسمع النقد المادح فينتشي ويظن أنه في مصاف العظماء، ويرى عمله مترجماً فيعتقد مزهواً أنه وصل للعالمية. حين ينتهي من تقديم ورقته على منبر ما يبارك له السامعون: ورقة رائعة! ثم تتردد تلك المباركة بعد كل ورقة في كل محفل حتى تفقد الروعة معانيها!

كم هي محبطة تلك المساواة في عالم الثقافة!! كم هو مثبط إلا يكون للمثقف طموحاً يدفع به إلى الأمام، جبلا شاهقا يتوق لتسلقه، قمة مرموقة يتمنى لو وصل إليها!! كم هو محبط إلا يسعى المثقف ويتعب في سعيه لترضى مؤسسة جادة عن عمله وتعمل على طباعته وتوزيعه! كم هو مثبط للهمم ألا يكون هنالك مؤتمراً يتنافس المثقف مع غيره للمشاركة به ويجاهد لاستيفاء شروطه الصعبة التي لا تقبل الكل والجميع!!

الآن يلوح الأمل في ثلاثة تحركات تقدمت بها وزارة الثقافة إلى الساحة المحلية تحمل في طياتها فرصاً غير مسبوقة لتحقيق التمييز المفتقد وتجويد الإبداع وإزالة ظلم المساواة. أول التحركات مجلة ثقافية مميزة عنوانها (المشهد الثقافي) وقد أصدرت الوزارة عددها الأول الذي أسند للدكتور سعد البازعي. وثانيها عودة مؤتمر الأدباء السعوديين الذي سيعقد في ذو الحجة القادم. وثالث التحركات وأهمها هو العمل على إحياء جائزة الدولة التقديرية للأدب.

هذه التحركات - لو شاءت الوزارة تقنينها بشكل صحيح - لأمكنها أن تصبح هي مرجعية المثقفين ولوضعت أعمالهم في إطار تقدير القيمة الحقيقية لمنجزهم الفعلي وتزكية عطائهم العلمي والمعرفي. إن التميز الذي نطمح إليه ليس قطبياً بمعنى الفصل بين الصالح والطالح والانقسام بين الجيد والأقل جودة، بل هو تميز تصاعدي كالسلم المتاح للتسلق، درجاته تحمل (من يجيد الصعود) إلى الأعلى دون مساعدة.

إن فكرة تكافؤ الفرص يجب إلا تقود إلى المبالغة في المساواة، كما أن المفاضلة المنشودة لا تعني بالضرورة لا الانحياز ولا الاستئثار، والوزارة دون شك قادرة على التطبيق السليم والحيادي لمبدأ التمييز على أسس موضوعية بحثاً عن الجودة ودفعاً إلى الإجادة وتحفيزاً للطموحات. في اختيار الوزارة لآليات دقيقة لتحكيم منتجات الثقافة ستعطيها صدى وأهمية وقيمة تنشط بها شرايين الساحة وتبعث فيها الحيوية وذلك بتشجيع المثقفين على التفوق والمثابرة والشعور بالمسؤولية. لنحترم من يستحق الاحترام والتبجيل، ولنتوّج الأعمال الفكرية والأدبية لرموزنا من القادرين والمبدعين، ولنقدر البارزين والمتفوقين حتى يكونوا قدوة للشباب فيجتهد ويكوّن لنفسه طموحاً يدفعه إلى الأمام. لنفعل ذلك وإلا، فإننا في صفنا الموّحد، جميعاً خاسرون.



lamiabaeshen@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد