ليس صحيحاً أنه لا يموت إلا الطيب، ولكن الطيبون هم من نشعر بمرارة فقدهم، نحس بالفراغ الذي تركوه في حياتنا، وغالباً لا نعرف قيمتهم الحقيقية إلا عندما يرحلون عن دنيا الناس، والجميل في هؤلاء الراحلين أن عظمتهم التي تبقى في نفوسنا وتقديرهم الذي حفروه في الذاكرة لم تكن لا هذه ولا تلك وليدة لمناصبهم ولا أنسابهم ولا أموالهم بل هي نتاج ذواتهم البسيطة المحبة الكادحة فهي من أسر القلوب وجعلها تستشعر عظمة هؤلاء وإن لم يذكرهم التاريخ وإن لم يعرفهم الناس، وقصصهم التي تُحكى عنهم تدل على أصالة معدنهم وصفاء نفوسهم، كثيرون هم أولئك الذين لم يعرفوا بأشخاصهم ولكن حكاياتهم تتردد على الألسنة وتبقى تنحفر في ذاكرة الأجيال، كم هي المواقف والأحداث التي سطرها رجال تذبح لهم النوق، ويتسابق الناس على كسب ودهم، وربما وثّق أقوالهم ومآثرهم من حولهم، ولكن لا شيء، انتهت كل تلك السطور وصارت نسياً منسيا حتى ولو بقيت بين دفتي كتاب، وفي المقابل بسطاء كانوا صادقين في مشاعرهم تلقائيين في تصرفاتهم استطاعت عدسة الزمن أن تحبس تلك الصور الرائعة لهم على حين غفلة منا لتبقى حكاية تروى في المجالس ودلالة يستشهد بها المتحدث على أن المعروف لا يموت والذكر الطيب لا ينمحي والسيرة العطرة لن تغيب ولو لم تكتب، صدقوني أعرف أناسا كان لرحيلهم ضجيج ولكن لأيام، وهناك آخرون رحلوا بصمت ولكن أعقبه التذكر المر والذكر الحسن والترحم على شخصه الذي صار في حديث من عاشروه وعاشوا معه مضرب المثل وعنوان الإخلاص ورمز الرجولة وأنموذج العطاء وحسن الأداء،، ومن باب الشيء بالشيء يذكر، أذكر أن زميلاً عزيزاً كان مظهره يدل على كل شيء، طبعا في اعتقاد البسطاء من الناس الذين لا يتجاوز تصنيفهم حدود الشكل الذي يرونه في عيونهم،، كان يعمل على وظيفة مستخدم إن لم تخني الذاكرة، ولكنه كان شعلة من النشاط، فخوراً بمهام ومتطلبات وظيفته، غاية مراده أن يسعد من حوله من الزملاء وألا يتأخر عن إتمام ما وكل له من عمل، والرائع فيه أنه يعتبر كل إنجاز يتم للكيان الذي ينتمي إليه يسجل في سجله الخاص فهو شريك في صناعة النجاح ولو من بعيد، أول من يأتي وآخر من ينصرف، يقدم خدماته بكل أريحية وطيب نفس، ولا يقبل لنفسه أن يترك المعاملة عند أي من المسئولين، يتابعها خطوة خطوة، ويجلس عند مدير المكتب حتى يُوقع عليها، فيأخذها بيده، والابتسامة تعلو محياه وكلمة الشكر تنساب بين شفتيه بهدوء وهمس، ولذا كان الغالبية من مديري الإدارات والأقسام حتى المدير العام يعرف أن عليه أن يوقع ملف هذه الإدارة قبل غيره لأن في الباب رجلا، بصدق رجل بكل ما تحمله الكلمة من معنى، رجل لا يترك ما وكل إليه حتى يعود به ولو انتظر طويلاً، لم يتذمر طول عمره من مرض مع أنه كان يعاني، ولم يشكُ من حال مع أنه من ذوي العوز والحاجة، وفجأة مات، رحل إلى الرفيق الأعلى رحمه الله رحمة واسعة، وبعد أيام سألت عن حالهم بعده، وإذ بهم كل صباح يترحمون عليه، يذكرونه عند الشروق وحين تغيب الشمس، يوردون قصص الماضي لهذا الرجل الذي كان صفحة عطاء وطويت، لقد تبدلت الحال بعده كثيراً، (بالفعل كان رقماً صعباً ولكن لم يكن أحد منا نحن من كنا نرافقه التفت إلى هذا الأمر إلا بعد أن رحل)، ومثله زميل آخر فراقنا أيام العيد الماضي يقول لي من صاحبه سنوات من العمر، تزيد على الخمس وعشرين عاماً (الحديث عن أبي عبد اللطيف حديث ذو شجون، والقصص في حياتنا الوظيفية كثيرة، والمواقف متنوعة وهي في ذات الوقت تنم عن معدن أصيل وخلق جم، لقد كان مديراً لشئون الموظفين في الإدارة العامة لكليات التربية للبنات في منطقة حائل ومن المواقف التي لا أنساه أن عضو هيئة تدريس، مصري الجنسية، يحمل درجة أستاذ مشارك، انتهى عقده وقرب سفره ولم تأت مستحقاته وبعض رواتبه، وكان لديه ضائقة مالية أسرّ به للزميل، والمبلغ لم يكن قليلاً حتى يوكل عليه ويسافر، إذ جاوز المائة ألف ريال سعودي، كان يتردد كل يوم على أبي عبد اللطيف الذي أعرف وضعه المالي جيداً، ولما طالت الأيام على هذا الأستاذ قام الأخ الفاضل والزميل الحبيب الأستاذ (عبد الله الأحمد) رحمه الله باستلاف المبلغ وسلمه كاملاً لهذا الرجل قبل سفره وأخذ وكالة على مستحقاته المالية، ومضت الأيام وكنت أنتظر معه صرف المستحقات، سألته بعد ذلك بفترة ليست بالقصيرة فقال أبشرك أخيراً صرف،، لقد فرج رحمه الله عن هذا المحتاج وفي هذا مخاطرة كبيرة كما يعلم الجميع وبمبلغ ليس قليلاً عند أمثال هذا الرجل الذي ليس له مصدر دخل إلا وظيفته، وجزماً كما وعد ربنا سبحانه وتعالى - في الحديث المعروف- (ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، وكذلك كان رحمه الله مديراً لشئون الموظفين ويسر على الغير وسييسر الله له، هذا مجرد موقف أذكره لرجل كريم سخي معطاء، لا يُعرف عنه أن قال غيبة، أو نقل كلاماً، أو كان منه إيذاء لمن حوله أو حتى تحته في إداراته مع أن طبيعة عمله قد تكون مفتاحاً للتشفي ومصدراً للصراع والتصنيف فأنت ضدي إن لم تكن معي،، خاصة في المؤسسات والإدارات التي هي في تكوينها بيئة ملائمة لمثل هذه الأفعال المشينة، وقد يطلب منه أن يقول فيلتزم الصمت ولا ينطق ببنت شفه) رحم الله الأخ الزميل (صالح البقعاوي) والذي كان يعمل في الإدارة العامة للتربية والتعليم في منطقة حائل (بنين) ورحمك الله يا أبا عبد اللطيف الأخ الرائع والزميل العزيز (عبد الله الأحمد) مدير شئون الموظفين في جامعة حائل، وستبقى زمالتكما وأخوتكما وسيرتكما وقصصكم شاهد صدق على أن العمل الصالح والخلق الحسن وصنائع المعروف لا تموت بل تبقى بعد صاحبها وإن رحل عن دنيا الناس لا يهم مرتبته ومنصبه وماله ونسبه المهم معدنه وسمته وخلقه، وإلى لقاء والسلام.