داليان الصين - في الأسبوع الماضي أعلنت شركة تدعى (الجينوم الكامل) عن عشرة من زبائنها الجدد الذين سوف يحصلون على خدمات الترتيب المتسلسل للجينوم البشري. ولم تحدد الشركة أسعارها، ولكنها قالت إن هدفها يتلخص في تقديم هذه الخدمة في مقابل 5000 دولار في غضون عام واحد.
إن ما أدهشني ليس الإعلان في حد ذاته، بل اسم المدير التنفيذي لهذه الشركة: كليف ريد، الذي كان حين تعرفت عليه في ثمانينيات القرن العشرين رئيساً تنفيذياً لشركة تعمل في مجال البحث في النصوص وكان اسمها (فيريتي). ولقد انتبهت إلى الارتباط على الفور. فالجينات تشكل بمعنى من المعاني لغة تعليمات خاصة ببناء البشر (أو أي كائن حي آخر). واللغة تشكل رموزاً تتفاعل لبناء المعاني. وبالطبع كان كليف ريد هو ذات الشخص الذي تعرفت عليه في الثمانينيات.
الحقيقة أن ما تقوم به شركة الجينوم الكامل بمبلغ الواحد والتسعين مليون دولار التي جمعتها حتى الآن مثير حقاً. فقد أنشأت مصنعاً لتنفيذ عمليات ترتيب تسلسل الجينوم وتخطط لإنشاء العديد من المصانع الأخرى في غضون الأعوام القليلة القادمة. ولا شك أن العديد من المرافق البحثية الأكاديمية والتجارية راغبة في الحصول على مصنع كهذا، وكذلك العديد من بلدان العالم.
في اعتقادي أن المثير للاهتمام في هذا الأمر هو المعاني والآثار الضمنية المترتبة عليه. فحتى الآن نستطيع أن نعتبر الجينوم أشبه برواية مكتوبة بلغة غير معروفة. والجينوم يحتوي على قدر هائل من المعلومات، ولكننا عاجزون عن فهمها. تخيل أنك حصلت على نسخة من رواية تولوستوي (الحرب والسلام) باللغة الروسية (على افتراض أنك لا تعرف اللغة الروسية) وأنح تحاول فهم أحداث الرواية. إنه أمر مستحيل بالطبع. وهذه كانت إلى حد كبير نفس حال كليف ريد فيما يتصل بفهم اللغة الطبيعية حين انضم إلى شركة فيريتي.
من جهة أخرى، لقد بدأنا في التعرف على بعض الكلمات - تنوعات جينية محددة - التي تبدو متوافقة مع بعض أحداث محددة في التاريخ. وفي حالة علم الوراثة والجينات فإن تلك الأحداث تتمثل في الأمراض والحالات. وكما يتطلب الأمر عادة العديد من الأفراد لإحداث أمر ما، فإن الأمر يتطلب عادة العديد من التنوعات الجينية، بالإضافة إلى العوامل المحيطة، للتسبب في نشوء مرض ما. إن الجينات تعمل في مجموعات غالباً، مستعينة في بعض الأحيان بعوامل مثل النظام الغذائي الذي يتبعه شخص ما أو سلوكه، لإحداث حالة ما.
هناك تحديان رئيسيان في عالم الجينوم. الأول يتخلص ببساطة في استكشاف الجينات، فرادى أو في مجموعات، التي يبدو أنها تؤدي إلى أمراض معينة. وهذا في حد ذاته قد يكون مفيداً. ومع توفر الكم الكافي من البيانات والمعلومات يصبح بوسعنا آنذاك أن نفهم أن نفس (المرض) هو في الحقيقة عبارة عن مجموعة متنوعة من الاضطرابات، بعضها قابل للشفاء باستخدام علاجات محددة معروفة، وبعضها قابل للشفاء باستخدام علاجات أخرى، وبعضها غير قابل للشفاء ببساطة.
وفي هذه الأحوال فإن مجرد إيجاد العلاقة المتبادلة يُعَد تقدماً كافياً. فالأشخاص المصابون بنوع معين من سرطان الثدي تتسبب في إحداثه جينات أولية يستفيدون من العلاج باستخدام عقار الهيرسيبتين، في حين لا يستفيد الأشخاص المصابون بأنواع أخرى من سرطان الثدي من ذلك العلاج. ونحن لا نعرف السبب، ولكن العلاقة المتبادلة واضحة.
أما التحدي الثاني فيكمن في فهم الكيفية التي تتفاعل بها الجينات فيما بينها أو مع عوامل أخرى لإنتاج حالة معينة، وهو ما ينبغي أن يمكننا من التوصل إلى تدابير وقائية جديدة أو علاجات تستند إلى التفاصيل الخاصة بكيفية بداية نشوء الحالة وتطورها. وهذا بطبيعة الحال أكثر إثارة للاهتمام - وتنفيذه أشد صعوبة. فهذا يشكل بمعنى من المعاني الفارق بين مطابقة الكلمات المتماثلة في نَصٍ ما وبين فهم النص بالكامل.
هناك فوارق شائعة، مثل الفوارق بين العيون الزرقاء والعيون البنية، أو حتى بين الأشخاص المعرضين للإصابة بمرض كرون على سبيل المثال والأشخاص غير المعرضين للإصابة به. ثم هناك الفوارق الناتجة ببساطة عن جين (مكسور)، والذي لا يشكل تنوعاً بل هو ببساطة خطأ أو خلل. وأغلب هذه الاختلافات أو الفوارق ليست ضارة؛ أما الاختلافات الضارة حقاً فهي لا تعمر لمدة كافية لكي تظهر في أي مكان.
وتتلخص مهمة الباحثين في البحث عن معنى بين كل هذه البيانات. ونحن الآن على الدرجة الأولى من سلم هذه العملية، وهي الدرجة التي سوف نظل عليها لعدة أعوام. وفي حين يبحث بعض الباحثين عن علاقات إحصائية متبادلة فإن آخرين يدرسون الكيفية التي يتم بها التفاعل بين الجينات الفردية.
وبالنسبة لكل من الفئتين من الباحثين فإن التعرف على تسلسل الجينوم البشري يشكل أهمية كبرى. ولكن الجينوم لا يعني إلا القليل بدون السجلات الطبية المتناظرة، تماماً كما لا تعني الرواية الروسية - بأي لغة - الكثير بدون معرفة متناسبة بالتاريخ الروسي.
إن التعرف على هذا التاريخ يتطلب موافقة الأفراد الذين تخضع جيناتهم لترتيب التسلسل الجيني. والأمر يتطلب أيضاً كم ضخم من معالجة البيانات لجعل السجلات قابلة للاستخدام. والواقع أن الكثير من المعلومات غير مسجل ببساطة، والكثير منها ما زال على الورق، أو على صور مأخوذة بماسحات ضوئية، أو على سجلات شركات التأمين والمعاملات الصيدلانية. هناك لغة معيارية موحدة لتمثيل الأمراض، ولكن في العديد من الحالات قد نجد أن السجلات التي تحتوي على هذه اللغة مختفية على نحو أو آخر.
والحقيقة أن التحرك الحالي في العديد من البلدان المتقدمة نحو إنشاء السجلات الطبية الإلكترونية من شأنه أن يحسن من الرعاية الصحية بشكل مباشر، ولكنه قد يؤدي أيضاً إلى تحسين سيولة المعلومات إلى حد كبير لمساعدة البحوث الوراثية وغيرها من البحوث الطبية.
لقد أصبحنا الآن نمتلك القدرة على ترتيب تسلسل الجينوم بتكاليف متزايدة الانخفاض، ونعمل ببطء على جعل المعلومات الصحية المتناسبة مقروءة. وتعمل شركات مثل الجينوم الكامل الآن على تطوير البرمجيات القادرة على معالجة مثل هذه المعلومات.
خاص «الجزيرة»