قبل سنوات كنت مع بعض الأصدقاء في زيارة لدولة (مالي). وخلال تجوالنا هناك عرف أحد الماليين بأننا سعوديون، فأتى إلينا، ورحب بنا بلغة عربية، ثم قال: (أعرف أنكم تبحثون عن حرز يقيكم الاغتيال. ولديّ صديق يصنع الأحراز التي تحمي من القتل، وأسعاره معقولة، وهو مستعد أن يُعلق الحرز الذي يصنعه على خروف، ثم يطلق النار عليه، وسترون بأعينكم أن الرصاص لن يضر الخروف)!.. أحد الأصدقاء تقدم إلى السمسار، وقال له بسخرية: (أنا سأشتري الحرز، ولكن أريد أن يلبسه من صنعه، وسوف أغرز في جسمه دبوساً وليس رصاصاً؛ (وخل الخروف على جنب)، فهل يقبل صاحبك المخترع؟). ضحك الزملاء، وانسحب السمسار، وفشل مشروع تسويق (صفقة) الحرز على السعوديين كما كان يتوقع!.. وقد قيل لنا فيما بعد إن هناك الكثير من السعوديين -الخرافيين طبعاً- يُسافرون إلى هناك، بحثاً عن هذه الخزعبلات، ويدفعون لقاء ذلك آلاف الريالات!.
عادت هذه الحادثة إلى ذهني وأنا أقرأ صورة لمنشور قذفت به طائرات السلطات اليمنية على أهالي منطقة (صعدة) في اليمن، ونقلت الرياح نسخاً منه إلى المناطق السعودية المحاذية للحدود السعودية اليمنية، تحذر فيه السلطات اليمنية أهل المنطقة اليمنيين من الحوثيين، وذُكر في المنشور مجموعة من قوادهم بالاسم؛ كما جاء فيه بالنص أن هؤلاء القادة: (يظللون شبابكم بالعزائم والحروز التي يدّعون أنها تقيهم من الرصاص.. وتدخلهم الجنة ويزجّون بهم إلى الموت.. إلى جانب ما يمارسونه من الدجل والتضليل والخداع.. بأساليب تعتبر قمة الغباء والجهل)!.
وتقول الأنباء القادمة من هناك إن الحوثيين يحرصون -أيضاً- على إشاعة أنهم لا يقاتلون السلطات الحاكمة فحسب، وإنما يقاتلون الأمريكيين والإسرائيليين، الذين يدعمون السلطات اليمنية، ويمدونهم بالرجال والعتاد؛ لذلك فالقتال ضد السلطة - كما يشيعون بين أتباعهم- هو قتال ضد الصليبيين واليهود. لذلك فقتلاهم -أي قتلى الحوثيين- في الجنة، وقتلى السلطة في النار؛ هذا طبعاً إذا فشلت (الأحراز) المعلقة على أعناق الحوثيين في حمايتهم من الموت!.
وثقافة الأحراز التي تقي من الموت، والحسد، وخزعبلات أخرى تتعلق بالعشق والهوى، وجلب الحظ السعيد، هي ثقافة خرافية توارثها الأفارقة والعرب منذ قرون. والذهن العربي (التقليدي) رغم التقدم، والتطور، والعلم، وتقارب الثقافات بين أمم الأرض، مازال في الغالب فكراً خرافياً، ساذجاً، يُؤمن بالشعوذة، ويُصدق بخوارق الطبيعة، وتنطلي عليه بسهولة مثل هذه الترّهات؛ لذلك كان من الطبيعي أن يوظف الحوثيون ثقافة الخزعبلات والأحراز -الحروز كما يسمونها- في دفع أتباعهم العقديين للقتال، ولسان حالهم يقول: الغاية تبرر الوسيلة مهما كانت قذرة!.
وكانت ثقافة الأحراز، واتخاذها خوفاً من الحسد، أو منعاً للشر، أو جلباً للفأل الحسن، شائعة عند العرب في الجاهلية، وكانت -حياناً- تشي بالضعف والخوف، وربما الجبن من مواجهة تقلبات الحياة؛ يقولون مثلاً: (لكلِّ حَيٍّ حِرزٌ إلا بَنيْ تغلب فإن حِرزَهُم السيوفُ). ولما جاء الإسلام منع الأحراز والشعوذة وكل أنواع الخرافات؛ وإن بقيت في قاع الذهنية العربية المتخلفة، تظهر كلما ابتعد الإنسان عن الدين والعلم والوعي واقترب من البدائية، مثلما كان العرب قبل الإسلام. إلى اللقاء،،،