لا أدري ما السر في أن يستحضر بعض الناس في كل عيد، قول المتنبي:
|
عيد بأي حال عدت يا عيد |
بما مضى أم لأمر فيك تجديد |
أما الأحبة فالبيداء دونهم |
فليت دونك بيدا دونها بيد |
مع أن العيد في الإسلام فطرة يلبي حاجة في النفس البشرية، سواء كان ذلك فرحاً وسروراً، أو لهواً وترفيهاً -لاسيما- إذا كان في دائرة المباح، لأنها مشاعر صادقة ونبيلة ومشروعة. والقول بخلاف ذلك يمثل أزمة في الوعي بحقائق النفس البشرية، وحاجاتها الأساسية. فيوم العيد يوم فرح وسرور ولهو وترفيه شرعاً وعقلاً وعرفاً. فقد روت -أم المؤمنين- عائشة - رضي الله عنها-: (دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (دعهما) فلما غفل، غمزتهما فخرجتا. رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: (تغنيان بدف). فاستنبط بعض أهل العلم من هذا الحديث: مشروعية التوسعة على العيال في أيام العيد بأنواع ما يحصل لهم من بسط النفس، وترويح البدن وأن إظهار السرور في الأعياد من شعائر الدين.
|
إن العيد شعيرة من شعائر الدين، ومظهر من مظاهره، ينطوي على حكم عظيمة، ومعان جميلة. فهو احتفال بتجديد الفرح والسرور لاستمرار الصلة بالخالق، بعد أن من عليهم بصيام شهر رمضان وقيامه، وبعد أن أتم عليهم نعمه التي لا تعد ولا تحصى، {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.
|
يأتي العيد بأفراحه وسروره للم شمل المسلمين، بصفاء قلوبهم ونقائه بالعفو والتسامح، ونبذ العداوة والبغضاء، فيسمو فوق كل جراحاتنا. وليعلم الناس أن في ديننا فسحة من خلال اجتماعنا على أساس فرح الطاعة والسرور بها.
|
أقول بعد هذه الخواطر: إنني وقعت في غرام كلمات إبداعية من النظرة الأولى، عندما انسابت عذبة من فم -الأديب الكبير- صادق مصطفى الرفاعي، فكان الخيال موطنه، والحروف أدوات رسمه، شعرت خلالها بضعف شديد أمام موهبته الفذة حين وصف العيد، بقوله: (جاء يوم العيد، يوم الخروج من الزمن إلى زمن وحده لا يستمر أكثر من يوم. زمن قصير ظريف ضاحك، تفرضه الأديان على الناس، ليكون لهم بين الحين والحين يوم طبيعي في هذه الحياة التي انتقلت عن طبيعتها. يوم السلام، والبشر، والضحك، والوفاء، والإخاء، وقول الإنسان للإنسان: وأنتم بخير يوم الثياب الجديدة على الكل إشعاراً لهم بأن الوجه الإنساني جديد في هذا اليوم. يوم الزينة التي لا يراد منها إلا إظهار أثرها على النفس ليكون الناس جميعاً في يوم حب. يوم العيد، يوم تقديم الحلوى إلى كل فم لتحلو الكلمات فيه... يوم تعمم فيه الناس ألفاظ الدعاء والتهنئة مرتفعة بقوة إلهية فوق منازعات الحياة. ذلك اليوم الذي ينظر فيه الإنسان إلى نفسه نظرة تلمح السعادة، والى أهله نظرة تبصر الإعزاز، والى داره نظرة تدرك الجمال، والى الناس نظرة ترى الصداقة. وما أسماها نظرة تكشف للإنسان أن الكل جماله في الكل. وخرجت اجتلي العيد في مظهره الحقيقي على هؤلاء الأطفال السعداء. على هذه الوجوه النضرة التي كبرت فيها ابتسامات الرضاع فصارت ضحكات. وهذه العيون الحالمة التي إذا بكت بدموع لا ثقل لها. وهذه الأفواه الصغيرة التي تنطق بأصوات لا تزال فيها نبرات الحنان من تقليد لغة الأم. على هؤلاء الأطفال السعداء الذين لا يعرفون قياساً للزمن إلا بالسرور. هؤلاء المجتمعين في ثيابهم الجديدة المصبغة اجتماع قوس قزح في ألوانه. ثياب عملت فيها المصانع والقلوب، فلا يتم جمالها إلا بأن يراها الأب والأم على أطفالها. ثياب جديدة يلبسونها فيكونون هم أنفسهم ثوباً جديداً على الدنيا. هؤلاء السحرة الصغار يخرجون لأنفسهم معنى الكنز الثمين من قرشين.. ويسحرون العيد فإذا هو يوم صغير مثلهم جاء يدعوهم إلى اللعب.. وينتبهون في هذا اليوم مع الفجر، فيبقى الفجر على قلوبهم إلى غروب الشمس. ويلقون أنفسهم على العالم المنظور، فيبنون كل شيء على أحد المعنيين الثابتين في نفس الطفل: الحب الخالص، واللهو الخالص. ويبتعدون بطبيعتهم عن أكاذيب الحياة، فيكون هذا بعينه هو قربهم من حقيقتها سعادة. هؤلاء الأطفال الذين هم السهولة قبل أن تتعقد. والذين يرون العالم في أول ما ينمو الخيال ويتجاوز ويمتد. ويأخذون من الأشياء لأنفسهم فيفرحون بها، ولا يأخذون من أنفسهم للأشياء كيلا يوجد لها الهم. ويعرفون كنه الحقيقة، وهي أن العبرة بروح النعمة لا بمقدارها. فيجدون من الفرح في تغيير ثوب للجسم، أكثر مما يجده القائد الفاتح في تغيير ثوب للملكة. هؤلاء الحكماء الذين يشبه كل منهم آدم أول مجيئه إلى الدنيا. حين لم تكن بين الأرض والسماء خليقة ثالثة معقدة من صنع الإنسان المتحضر. حكمتهم العليا: أن الفكر السامي هو جعل السرور فكراً وإظهاره في العمل. وشعرهم البديع: أن الجمال والحب ليسا في شيء إلا في تجميل النفس وإظهارها عاشقة للفرح. وإذا لم تكثر الأشياء الكثيرة في النفس، كثرت السعادة ولو من قلة. أيها الناس، انطلقوا في الدنيا انطلاق الأطفال يوجدون حقيقتهم البريئة الضاحكة، أحرار حرية نشاط الكون ينبعث كالفوضى، ولكن في أدق النواميس. يثيرون السخط بالضجيج والحركة، فيكونون مع الناس على خلاف، لأنهم على وفاق مع الطبيعة. وتحتدم بينهم المعارك، ولكن لا تتحطم فيها إلا اللعب.. لا يفرح أطفال الدار كفرحهم بطفل يولد، فهم يستقبلونه كأنه محتاج إلى عقولهم الصغيرة. ويملأهم الشعور بالفرح الحقيقي الكامن في سر الخلق، لقربهم من هذا السر. وكذلك تحمل السنة ثم تلد للأطفال يوم العيد، فيستقبلونه كأنه محتاج إلى لهوهم الطبيعي. ويملأهم الشعور بالفرح الحقيقي الكامن في سر العالم لقربهم من هذا السر. أيتها الرياض المنورة بأزهارها. أيتها الطيور المغردة بألحانها. أيتها الأشجار المصفقة بأغصانها. أيتها النجوم المتلألئة بالنور الدائم، أنت شتى، ولكنك جميعاً في هؤلاء الأطفال يوم العيد!).
|
|