استكمالا لمتابعة الرد الذي كتبه الشيخ الدكتور محمد يحيى النجيمي، سأكمل في هذه المقالة تعليقي على تناول الشيخ لمفاهيم العلمانية وعلاقتها بالعلم، وقد كان رده مكرساً بمشاعر الحدة والشك السلبي، وكأنني أحد دعاة العلمانية المؤدلجين، كذلك نال التيار العقلاني في الإسلام نصيبه من الهجوم، والذي لم يكن له علاقة بما حدث من تطورات في أصول وتطبيقات العلمانية في الغرب، أو في تاريخ تطور العلم التجريبي، فقد كان مهموماً في عصر الكلام بالقضايا السياسية التي كانت مرآة لمرحلة ما بعد الخلافة الراشدة، وما صاحب عصر الفتنة من ثورات وخلافات سياسية..، لكن الحفيد ابن رشد يختلف، فقد كان له رؤية ومنهج في الموقف من العلم والحكمة، وكان يمثل حسب رأيي أعلى مكانة وصل لها المسلمون من احترام العلم الإنساني، لكنه عالم لم يطع في قومه، فقد أحرقت كتبه ثم تم تهجير ما بقي من كتبه وأفكاره ومنهجه إلى الغرب، ليحدث فيها ثورة استحق أن يتبوأ اسمه زعامتها لقرون في أوروبا قبل أن يبدأ عصر النهضة الأوروبي بعد سقوط حكم الكنيسة..
يرجع تاريخ بدء سيطرة العلمانية على لغة العلم إلى الفلسفة الوضعية التي كان مؤسسها أوغست كونت، والذي دعا إلى أدلجة أصول العلم التجريبي وفصل أبحاثه تماماً عن الغيبيات، كذلك ساهم في نقل المنهجية التجريبية من ساحة العلوم الفيزيائية على مختلف الظواهر الإنسانية، والفلسفة الوضعية في جوهرها فلسفة علمية دقيقة تؤمن بالحسابات والمعادلات الرياضية والقوانين الفيزيائية فقط، أي انها فلسفة مهووسة باكتشاف القوانين، التي تتحكم بالظواهر الطبيعية والفيزيائية،..
وكان كونت يعتقد أن البشرية كلها سائرة لا محالة باتجاه المرحلة الوضعية أو العلمية المحضة، وهو ما حدث بالفعل، فاللغة المسيطرة على العلم والطب وغيرها من القوانين لا تقبل علىالإطلاق إدخال الغيبيات والإيمان بالله عز وجل في لغة العلم التجريبية، وقراءة نتائج التجارب العلمية، ولكي تتضح الصورة لدى الدكتور حفظه الله، أقترح عليه زيارة أحد مراكز البحث العلمي في الرياض، وعندها ربما سيدرك مدى انفصال العلم التجريبي عن الدين، إذ لم تعد هناك نقطة اتصال بينهما إلا من خلال تدبر أسرار مخلوقات الله عز وجل..
ما أورده الدكتور عن أثر المسلمين في العلم التجريبي هو صحيح، فقد كان للرازي وجابر بن حيان مجهودات علمية ضخمة في علم الكيمياء، فقد قاما بدراسة علمية دقيقة لها، وأدت هذه الدراسة إلى بداية وضع وتطبيق المنهج العلمي التجريبي، فمحاولة معرفة مدى صحة نظرية العناصر الأربعة عند اليونانيين ساعدت علماء العرب والمسلمين في الوقوف على عدد كبير جداً من المواد الكيماوية، وكذلك معرفة بعض التفاعلات الكيماوية، لذلك فإن علماء المسلمين يرجع الفضل في تطوير اكتشاف بعض العمليات الكيميائية البسيطة مثل: التقطير والتسامي، والترشيح، والتبلور، والملغمة، والتكسيد، وقد كان لجابر بن حيان المشتهر بالإيمان والورع، والملقب بالأستاذ الكبيرو(شيخ الكيميائيين المسلمين) و(أبو الكيمياء) إنجازات علمية مبهرة، فهو أول من فصل ماء الذهب، واكتشف الصودا الكاوية أو القطرون، أومن اكتشف حامض الهيدروكلوريك، وحمض النتريك وغيرها من الاكتشافات الكيمائية العلمية، وتم ترجمة كتبه إلى اللاتينية..
لكن برغم من هذا التطور الهائل في علم الكيمياء عند المسلمين، وفي مجال العلم التجريبي في العلوم الأساسية تمت ممانعته من قبل علماء كان لهم عظيم الأثر في تاريخ الإسلام، وإذا استثنينا محاولة ابن رشد في التوفيق لم ينجح مفكروا الإسلام وفلاسفته في وضع أسس علمية تكفل تطور العلم التجريبي وحمايته من التكفير والتحريم، فقد تم تحريم الكيمياء من قبل شيخ الإسلام (ما يصنعه بنو آدم من الذهب والفضة وغيرهما من أنواع الجواهر والطيب، وغير ذلك مما يشبهون به ما خلقه الله من ذلك؛ مثل ما يصنعونه من اللؤلؤ، والياقوت والمسك، والعنبر، وماء الورد، وغير ذلك: فهذا كله ليس مثل ما يخلقه الله من ذلك؛ بل هو مشابه له من بعض الوجوه وليس هو مساويا له في الحد والحقيقة، وذلك كله محرم في الشرع بلا نزاع بين علماء المسلمين الذين يعلمون حقيقة ذلك!!، ويكمل: (وحقيقة الكيمياء إنما هي تشبيه المخلوق وهو باطل في العقل والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وكل ما أنتجته الكيمياء من منتجات هي مضاهاة لخلق الله)..
وقد كان جابر بن حيان عند شيخ الإسلام مجهولا لا يُعرف بين العلماء، وهو ما يكشف حقيقة قدر العلوم التجريبية عند بعض علماء وفقهاء الإسلام، وكان لهذا الموقف السلبي ضد الكيمياء والعلوم الأساسية وعالمها الشهير أثره الكبير على مناهج التعليم لدينا، برغم من أن هناك من يدافع عن الفتوى، ويرى فيها تحريما للتزوير والتزييف، لكنه كان في واقع الأمر تحريما للتفكير والنتائج الخاطئة، والخطأ يمثل أحد أوجه أسس العلم التجريبي، وكان للتحريم أثره السلبي على تدريس العلوم الطبيعية، فعلى سبيل المثال كانت المدارس العلمية كما كان يطلق عليها تخلو مقرراتها من الرياضيات والفيزياء والكيمياء إلى وقت قريب، وكان تعريف العلم حسب تلك الرؤية ينحصر فقط في العلوم الشرعية...
أخيراً أجد أننا في حاجة لمراجعة كثير من مواقفنا تجاه العلم الحديث، وإدراك أن الأهم في هذه المرحلة هو تأسيس مشروع حضاري جديد يرأب الصدع الذي أحدثته وتحدثه القراءات الخاطئة والمتناقضة تجاه العلم الحديث.