Al Jazirah NewsPaper Monday  14/09/2009 G Issue 134500
الأثنين 24 رمضان 1430   العدد  134500

أهو التكريم للقدس أم التوديع؟
د.عبدالله الصالح العثيمين

 

لقد اختيرت القدس عاصمة للثقافة العربية هذا العام، الذي يوشك أن يودع أمتنا وتودعه بكل ما عانته وما زالت تعانيه من مآس وآلام. ونية من اختاروا تلك المدينة لتكون عاصمة لثقافة هذه الأمة، التي لا يشرِّف حاضر أكثرها، نية حسنة ومقدرة لدى المخلصين...

...لأمتهم. ومن الدول العربية ما أقامت ندوة، أو نشاطاً ثقافياً، عن هذه المدينة، التي سمَّاها من سمَّاها عاشقاً لها أم المدائن. المدينة التي قال الله - سبحانه - أصدق القائلين بشأن مسجدها الأقصى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}. وجعل نبي الرحمة للعالمين مسجدها ثالث مساجد تشد إليها الرحال للزيارة عبادة لله جل وعلا.

على أن ما أبداه البعض تجاه مناسبة كون القدس عاصمة للثقافة العربية بعيد عن أن يكون في مستوى أهمية هذه المدينة، وبخاصة في ظل الظروف التي تواجهها؛ إذ يتم تهويدها يوماً يوماً وساعة وساعة. والذين أبدوا ما أبدوا من اهتمام بتلك المناسبة.. وإن كان ما أبدوه يقلُّ عما هو مأمول - يمكن أن يقال عن موقفهم: حنانيك بعض العجز أهون من بعض. أما الذين لم يهتموا بالمناسبة إطلاقاً فإن من المؤكد، أو شبه المؤكد، انهم سيهتمون غاية الاهتمام لو كان الأمر يتعلق بمغنية تعرض مفاتن جسدها، وتردِّد كلمات رخيصة تصل، أحياناً، إلى حد البذاءة.

كان المؤمل - لو كان لدى أمتنا بقية من شعور نبيل جدير بالتقدير - ان يكون للقدس مكان في برامج شهر رمضان الكريم إلى جانب البرامج الكثيرة، التي معظمها غير منسجم مع ما لهذا الشهر من حرمة وقدسية. بل أصبحت تحاول الإلهاء والتسلية وحدهما، تماماً كما يحدث في حي الحسين بكل مظاهر الرقص وغناء الطرب حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم يُتم النوم إلى العصر.

أما بعد:

فمنذ أن تعاون من تعاون من زعماء أمتنا مع أعدائها من البريطانيين بالذات ضد الدولة الإسلامية التي كانت القدس تستظل بحمايتها بغض النظر عما كان لتلك الدولة من أخطاء تكفِّر عنها مواقفها العظيمة دفاعاً عن مقدسات الأمة، وعوامل إضاعة تلك المدينة التي بارك الله حولها تزداد صلابة.

كان من نتائج ذلك التعاون المشؤوم أن نزل من المصائب ما هو محتوم، إذ وقعت القدس وفلسطين كلها، إضافة إلى بلاد الشام بمناطقها المختلفة والعراق بنهريه وفئاته، في أيدي أعداء أمتنا. وكان أن مهَّد البريطانيون الماهرون في المكر والخداع، الذين ابتليت فلسطين بالذات بأن يكونوا منتدبين عليها، للصهاينة طريق الاستيلاء على تلك البلاد الغالية وترسيخ أقدامهم فيها. وكان ما كان مما هو معروف لدى الكثيرين.

على أن القدس ظلت حيَّة في ضمائر المخلصين من أمتنا. وكان الحب لها والخوف على مستقبلها في ظل ما ساد من أوضاع مما تعمَّق في النفوس. ومن الذين فاضت مشاعرهم بحبها والخوف عليها الشاعر الفلسطيني، الذي قال للملك سعود، رحمه الله، عند زيارته للأقصى:

المسجد الأقصى أجئت تزوره

أم جئت من قبل الضياع تودِّعه؟

ولقد استولى الصهاينة على قسم من مدينة القدس عام 1948م، ثم استولوا عليها كلها بما فيها المسجد الأقصى عام 1967م. وبقي من أبناء الأمة من يأملون في تحريرها من أدران الاحتلال الصهيوني، تماماً كما وُجِد من الزعماء من لا يهمهم إلا كراسي الحكم يبقون عليها وإن كانوا يحتمون بحماية أعداء أمتنا العربية ومن ورائها العالم الإسلامي الممزق، أو المتزِّق. وأكاد أجزم أن من في قلبه ذرة من إيمان يأمل أن تتحرر القدس من أدران ذلك الاحتلال الصهيوني المقيت. وكان من هؤلاء مقاتل من الجيش المصري الذي برهن على تحلِّيه ببطولة عظيمة في بداية حرب عام 1973م. كان ذلك المقاتل البطل قد أرسل رسائل إلى أمه قبيل تلك الحرب المجيدة وفي أثنائها. وكان في الرسالة الأولى يلوم أولئك الذين هم في غيِّهم سادرون يؤمنون بأن يعاد ما اغتصب من أرض بطرق سلمية، فراحوا منهمكين في حفلات رقص ليلية! وكأن منائر الأقصى لم تذرف دمعاً، وان النار لم تلتهم محرابه، ويؤكد أن تحرير الأرض لا تحققه إلا دماء سقتها الأرض أحرار. وكان في الرسالة الثانية - بعد بدء تلك الحرب - أن رفاقه قد تعاهدوا أن يستمر كفاحهم حتى يعيدوا الأرض المغتصبة.

ويطهِّروا القدس الشريف من الأُلى

هدموا تراث المسلمين ودمَّروا

أما في الرسالة الثالثة فبعد أن بيّن ما أبداه الأبطال من بطولات على الجبهتين المصرية والسورية قال مختتماً لها:

الآن يا أمي أعيد كرامتي

أقضي على ذلِّي قضاء مبرما

وغداً ربوع القدس تصبح حرة

والمسجد الأقصى عزيزاً مُكْرَما

وأما الرسالة الرابعة فكتبها ذلك المقاتل البطل بعد وقف إطلاق النار؛ قائلاً في آخرها:

توقَّفت طلقات النار عاد إلى

مجاهل الصمت صوت ضجَّ واحتدما

والقدس ما زال محتل يدنِّسها

وغاصب في حماها يرفع العلما

وعدت أبحث عن حلّ يقدِّمه

من صب فوقي من ويلاته ضرما

والحلَّ الذي قال ذلك المقاتل البطل: إنه عاد يبحث عنه هو الحل الذي بات من قادة أمتنا المستسلمة من يبحث عنه؛ لا أن ذلك البطل وأمثاله يبحثون عنه. وما زال موقف المستسلمين من هؤلاء القادة يبحثون عنه آملين أن ينزل عليهم رحمة من عند قادة أمريكا المتكبرين. وإذا كان منهم من كان يأمل في نزول حل عادل منها في ظل إدارتها السابقة.. أعتى إدارة وأشدِّها عداوة لأمتنا في كل مكان من فلسطين للسودان ومن العراق لأفغانستان إلى غير هذه من الأوطان فقد ازدادت أعداد الآملين المستسلمين في نزول حل منها في عهد إدارتها الحالية.

هل أمل هؤلاء الآملين الجدد مبني على أسس صلبة؟

أهم المسائل بالنسبة لقضية فلسطين هي القدس، والانسحاب من الأراضي المحتلة على أيدي الصهاينة عام 1967م - وهذا أدنى ما يطالب به الضعيف -، وحق العودة للاجئين الفلسطينيين. ما موقف الإدارة الحالية من هذه المسائل؟

كان رئيس الإدارة الحالية، الذكي المفوّه، يعلن خلال حملته الانتخابية للوصول إلى الرئاسة أنه مع بقاء القدس موحدة. وهذا يعني - بطبيعة الحال - بقاءها موحدة تحت حكم الصهاينة المحتلين. هل تغير الموقف بعد الوصول إلى الرئاسة؟ في خطاب الرئيس أوباما في القاهرة، الذي هلل وكبّر له الكثيرون، قال الرئيس الأمريكي: إن القدس ملتقى الديانات السماوية الثلاث. وهذا غني عن البيان؛ إذ هو معروف للجميع. لكن الرئيس لم يفه بأيِّ كلمة توحي بأنه يرى إنهاء الاحتلال للقدس الشرقية. بل أن أنباء أصبحت تتردد، في الأيام الأخيرة، مفادها توصل الصهاينة إلى اتفاق مع الإدارة الأمريكية بان لا تبدي معارضة لتوسيعهم تهويدهم لها؛ ناهيك عن إزالة ذلك التهويد. ومادام الرئيس قد وعد الصهاينة - أثناء حملته الانتخابية - بما وعدهم به فقد برهن الزعماء الأمريكيون الأولون والآخرون انهم في وعودهم للصهاينة وافون.

وأما انسحاب الصهاينة عن الأراضي التي احتلوها عام 1967م انسحاباً كاملاً؛ وهو مما قام على أساسه مؤتمر مدريد، الذي هو تنازل كبير من تنازلات عربية متتالية، فليس في كلام الإدارة الأمريكية الحالية ما يؤكده أو يشير إليه بوضوح. ولو فرض أن الصهاينة أوقفوا بناء بعض المستعمرات إيقافاً مؤقتاً فإنه لا حديث عن إزالة هذه المستعمرات أو الانسحاب منها لتعود مع ما يعود من أرض فلسطين وما عليها منذ الاحتلال المشار إليه.

وأما عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم الذي تشردوا منه نتيجة المجازر التي ارتكبها المجرمون الصهاينة ضدهم - وعودتهم حق أقرته الأمم المتحدة نفسها - فهي مما لا يقبله قادة الكيان الصهيوني، وبالتالي قادة الولايات المتحدة الأمريكية.

تلك هي أهم المسائل بالنسبة للقضية الفلسطينية. لكن مما أضافه الصهاينة إليها أواخر عهد الإدارة الأمريكية السابقة، وأكدوا عليه في ظل الإدارة الحالية، اعتراف العرب؛ فلسطينيين وغيرهم، بيهودية دولة أولئك الصهاينة. وفي هذا ما فيه من دلالة اعتاد هؤلاء بمكرهم أن يخلقوا من كل شيء ما يخدم مشروعهم الصهيوني الكبير. ومما قد يستفاد من ذلك استخدام الاعتراف لطرد من بقي من الفلسطينيين في فلسطين بعد احتلال الصهاينة لها عام 1948م.

وإذا كان ما يقوم به الصهاينة من حفريات متواصلة تحت قواعد المسجد الأقصى، وتهويد لأحياء القدس، وتغيير لبنيتها السكانية، وقضاء على آثارها وتراثها، لم يحرِّك لدى قادة العرب والمسلمين ساكناً فإن المرء ليحار؛ وهو يسمع ويقرأ أن القدس عاصمة الثقافة العربية هذا العام، ويقول: أهذا العام عام تكريم للقدس أم عام توديع لها؟


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد