ما فائدة أن تناقشوا المشاكل ولا تطرحوا لها حلا؟ لا نريد نقداً وتحليلاً لواقعنا، أزماتنا العربية ونعرفها: فقر، بطالة، فساد إداري ومالي، استبداد، قمع.. ما الجديد والحلول لديكم؟ مثل هذه الأقوال تتكرر في كثير من تعليقات القراء في الصحف.
والناشطين في الإنترنت، والمشاهدين في الفضائيات..
وعلى طريقة ما يطلبه المشاهدون فكل تيار فكري عربي يملأ حلوله في طول الأرض وعرضها، بعد أن يستعجل تشخيص الأزمات.. وليت أن الحلول تقنية واضحة المعالم تُمكِّن صاحب القرار من وضع خطة عامة قابلة للتنفيذ، بل هي شعارات فضفاضة تدغدغ مشاعر الحالمين بأمل لا يعرفون لماذا لا يتحقق لو جزء يسير منه!
فالتوجه الليبرالي يرى المشكلة في الاستبداد، ويطرح الحل في الحرية والديمقراطية من أجل التطور ونجاح التنمية، رغم أن أسرع دولة في العالم في التنمية الاقتصادية والتطور التكنولوجي (الصين) بها استبداد ينافس الاستبداد العربي.
التوجه الإسلاموي يرى المشكلة في الوعي الديني وضعف تدين المجتمعات العربية ويطرح شعار (الإسلام هو الحل)، رغم أن أغلب المجتمعات والدول العربية هي مسلمة محافظة جداً والأكثر تديناً عالمياً. التوجه القومي يرى أن المشكلة في التشرذم العربي ويطرح الوحدة العربية كحل، رغم أن تجارب الوحدة كانت نتائجها سلبية ومخجلة.
التوجه الاشتراكي يرى أن المشكلة في الفقر والظلم الاجتماعي ويطرح العدالة الاجتماعية كحل، رغم أن الظلم الاقتصادي يرتع في كثير من الدول المتقدمة...
لا أعتقد أن الصعوبة في طرح الحلول، فالحلول جاهزة ومنثورة على قارعة الطريق إذا عُرفت الأسباب، بل الصعوبة في تحديد الأسباب وتشخيص العلل.. وأقصد بالتشخيص التحديد الجزئي الدقيق وليس العام الفضفاض فذلك يسير على أي مراقب عادي.. لذلك الناس (طفشت) من تكرار الأسباب العامة (استبداد، فساد..)، التي تعرفها بداهة بحكم المعايشة.. ناهيك أن الأسباب الظاهرة قد تكون نتائج وليست أسباباً..
أنا لا أفهم في ميكانيكا السيارات، ولكن يمكنني أن أعرف أن الخلل في سيارتي المتعطلة أنها قديمة أو سوء استخدامي لها، هذا ليس سببا محدداً، بل سبب عام لا يفيد في طريقة إصلاح العطل، لكن الميكانيكي الماهر سيحدد السبب بدقة، ومن ثم سيكون الحل واضحاً..
في تقديري أن الناس (طفشت) من النقد التحليلي، لأن التحليل المطروح حالياً لا فائدة منه، فهو في الغالب ليس تحليلياً منهجياً، بل تذمراً يصف حالة عامة. وبالمقابل، فإن الحلول المسبقة والجاهزة هي ليست حلولا بل حشواً لفظياً، لأنها تحدد الحل قبل أن تحدد الأزمة.. ولدعم هذا الحل المسبق يضطر صاحبه أن ينتقي من الوقائع ما يناسب حلَّه.. لذلك يأتي الطرح انتقائياً ومفرطا في العموميات وغير قادر على وضع إطار عملي للتعامل مع الواقع.. إنه تيه يضاف إلى تيهنا الذي نحن فيه!
غالبية المفكرين والمثقفين العرب يقضون جل وقتهم وجهدهم في صياغة الحلول وفقاً لنظريات مسبقة يؤمنون بها، وليس وفقاً لتشخيص المشاكل الموجودة فعلاً.. أي وضع العربة أمام الحصان. فقلما تجد مفكراً عربياً يستند في تشخيصه للعلل والأزمات على الدراسات العلمية والأبحاث والاستطلاعات الميدانية والإحصاءات التفصيلية والتقارير العملية التي تتطلب جهداً مضنياً في تنظيمها وفرزها والاستدلال المهني منها وليس التفكير التأملي العشوائي مع القهوة والشاي.
انظر إلى المراجع في نهاية كتب أغلب المفكرين العرب، قلما تجد فيها دراسة أو بحثاً أو استطلاعاً ميدانيا أو تقارير إحصائية، على نقيض الكتب الإنجليزية مثلا؛ حيث ستجد مئات المراجع..
الكاتب العربي ذو الثقافة الواسعة يقضي أغلب وقته في عشوائية التأمل وانتظار الإلهام يهبط عليه مع القهوة والشاي، ويستدل بطرق غير منظمة منهجياً يختلط بها المنطق الاستنباطي مع الاستقرائي، والوعظي مع البراجماتي، والتذمري مع النقدي، والسبب مع النتيجة، والخيالي مع العملي، والخرافي مع العلمي.. إنه يعتمد على الذكاء الفطري وليس على التنظيم المنهجي. ولا يُستثنى من ذلك سوى الدراسات الأكاديمية الرصينة وقلة نادرة من المفكرين العرب، أمثال: علي الوردي وجمال حمدان وعبد الله العروي ومحمد أركون..
غالبية الأطروحات العربية تتصف بصفتين أساسيتين؛ الأولى هي الشمولية والأخرى هي الإيديولوجية. فشموليتها عندما تبحث في أحد فروع الإصلاح، كالإداري أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، فإن الإجابة لديها واحدة شاملة لكل المجالات، وتلك إجابة غير عملية لأنها تتعامل مع الطبيعة الخاصة لكل أزمة بطريقة عامة لكل الأزمات.. أي تتعامل مع الجزئي وكأنه عام. وإيديولوجيتها تعني أن الطرح جاهز أياً كان المجتمع أو المرحلة التاريخية أو سياق الأحداث، فهي تزعم أنها صالحة لكل المجتمعات والمراحل والأحداث.. ومن هنا تتراجع أهمية التحليل والتشخيص والمراجع العلمية والمنهجية المنظمة، فالإجابة جاهزة مسبقاً فلا داعي لكل هذا الجهد التحليلي والتنظيمي فالمسألة بعض من الذكاء تصقله الإيديولوجيا..
وفي تقديري أن المشكلة لا تكمن في مضمون تلك التوجهات أيا كانت ليبرالية أو إسلاموية أو قومية أو اشتراكية.. فالمضمون بحد ذاته قد يكون له قيمة فعلية كبيرة مثل الديمقراطية والانفتاح الثقافي والعدالة الاجتماعية والوحدة والوازع الأخلاقي، لكن المشكلة في طريقة التفكير والتعبير عن هذه المضامين..
فإذا اتفقنا أن المضمون مفيد وإنساني، فإن السؤال هو كيف يوضع هذا المضمون في الإطار المناسب.. العسل مادة غذائية عظيمة النفع يمكنك أن تضعه في وعاء من الطين أو الخشب أو الزجاج؛ فالوعاء هو الذي يحدد نجاح المضمون، وليس المضمون بحد ذاته.. فمن يدافع عن حرية الرأي ويعبر عنها بطريقة تنفي الآخر يختلف عن الذي يدافع عنها بطريقة ترحب بالآخر.. ومن يدعو للمساواة ويستخدم وسائل قمعية لدعوته غير الذي يستخدم وسائل ديمقراطية..
ومن جهة أخرى، فالقول بأن فكرة إصلاح ما هي شاملة لكل المجالات كالقول بأن العسل مفيد للجميع بما فيهم المصابون بالسكر.. فعند الإصلاح الإداري مثلا لا يمكن تعميم الطرح المفيد بطريقة شمولية عامة (حرية، مساواة، عدالة..)، بل يتطلب الأمر وضع خطط واستراتيجيات، بعد الدخول في دراسات وإحصاءات توضح جزئيات مهمة في الإصلاح الإداري، مثل: الإنتاجية، الكفاءة، سرعة الأداء وجودته، الرقابة والمحاسبة والشفافية، التكاليف، الخسائر، الأرباح، نسب القطاعات لبعضها (الإنتاج، الخدمات، الإدراة..)، ساعات العمل..إلخ.
يمكنني تصور الجسد العربي كمريض يتألم بحدة، فينصحه الطبيب بالاهتمام بالغذاء الصحي وممارسة الرياضة.. هذه حلول صحية عامة تنطبق على المرضى والأصحاء. ودون أن يشخص الطبيب العلل الحادة الحالية التي يعاني منها المريض، فإنه لن يفيده في العلاج..
لا أريد حلا يأتي به مفكر عربي يطرح أفكاراً عامة رائعة لكنها لا تقدم ولا تؤخر على أرض الواقع، بل أريد تشخيصاً واضحاً ثم حلولا مقترحة قابلة للتطبيق.. التشخيص يأتي قبل الحل، فالأساس في التشخيص، ولكن أي تشخيص!؟
alhebib@yahoo.com