Al Jazirah NewsPaper Sunday  13/09/2009 G Issue 13499
الأحد 23 رمضان 1430   العدد  13499
هذرلوجيا
ناجي عمَّاً (3-3)
سليمان الفليح

 

ذات يوم وأنا أدلف إلى صالة التحرير في جريدة السياسة، سمعت صراخاً عالياً وتهديداً وشتائم، كان يطلقها الرجل الأشيب - أي ناجي - ضد أحد المحررين الفلسطينيين الشباب. وكان ناجي يطرق الطاولة ويخبط بقدمه الأرض، وقد كاد الدم يتفجر من وجهه الذي غدا محمراً بشكل لم أشاهد مثله في حياتي وكان يردد: (والله لا أذبحه أخو الشليته)، ثم يردف: الفلسطيني ما خُلق ذليلاً ولا منافقاً - ولا مسّاح جوخ زي ها ال (...)، وكان يتفلت نحو المحرر المسكين وهنا أتيت ناجي من الخلف وحضنته وقبلت رأسه وأخذته إلى مكتبه وأنا أقول له: بسيطة يا عم ناجي امسحها بوجهي سيب ها المسكين الجاهل.

وهنا التفت إليّ وهو يواصل السباب: تصور يا أخي هالحقير ينافق ها (البزرميط) اللي خرج قبل شوي عشان فلوسه، ويجري خلفه زي الكلب وهو يقول له: (عمي. عمي. ياعمي العود)، بينما البزرميط يعضّ سيجاره الهافاني زي ما يعض الكلب العظم ولا يلتفت إليه.

***

وبالفعل حينما دخلت إلى باب الجريدة رأيت البزرميط وهو يخرج على نفس الشاكله التي وصفها ناجي. والبزرميط مثار الجدل وسبب (الهوشه) هو أحد التجار الذين أثروا باسم القضية، وقد اشتهر بالنصب والسرقة والاحتيال وسوء السمعة، ما علينا من ذلك كله، المهم أنني أخذت ناجي إلى مكتبه وهدأت من روعه وأنا أقول له ساخراً: بسيطة بسيطة يا عمنا (العود) ناجي. وهنا ضحك ساخراً هو الآخر وقال: أنتم الذين علمتم مثل هذا (الوبش) هذه العبارة (التذللية) وهنا قلت له: إن هذه العبارة في الأصل ليست للتذلل بل للاحترام. فالعم تعني أن المكنى بها هو بمثابة عمك الحقيقي (أي أخو أبو ك)، أما (العود) فهي تعني في الأساس كبير (السن) وعادة ما تطلق عند العرب على (كبار فحول الجمال) المسُنّة وهي مرحلة عمرية قبل (الهرش) وقبل (الناب)، ثم يا عم ناجي إنها عندكم تعني (الختيار) وهذه الصفة لها فضل عليك أنت بالذات، إذ لولا هذه الصفة لكنت في عداد الموتى أو المعتقلين على أقل تقدير. وهنا ضحك أبو خالد (ناجي) وقال: كيف (يا زلمة)؟! فقلت له: يا هداك الله ألا تذكر حينما جمع الإسرائيليون سكان المخيم من الرجال في الساحة العامة وأخذوا يطلقون سبيل الكهول وكبار السن وحينما تلكأت قليلاً نهرك الجندي الإسرائيلي بقوله: (أنت هناك ختيار قوم روَّح؛ لأنه ظنك (ختياراً) من خلال شعرك الأشيب وظهرك المحدودب، فضحك كثيراً وقال: يخرب بيتك كيف تذكرت هذا الموقف، وهنا أضفت: لذا سأدعوك من الآن فصاعداً (عم ناجي) سواء زعلت أو رضيت!! فاستمر في الضحك إلى أن توقف قليلاً وانحنى باتجاهي وبما يشبه الهمس قائلاً: شوف يا بدوي الظاهر أنه في هذا البلد كل واحد له عّم إلا أنا وياك: لذا سأدعوك... عمي البدوي إذا ما دعوتني (عم ناجي).

وهنا لست أدري ومن باب محاسن الصدف أن دخل علينا (الصديق المشترك الكاتب الكويتي الساخر سليمان الفهد وما إن شاهدنا معاً حتى قال لنا: (أوه. أوه وش جمّع الصعاليك) وهنا (حبكت) معي وقلت: يا ناجي لقد اتفقنا أن يكون كل منا عماً للآخر ولكننا بلا (عم عود)، فما رأيك أن نزكي سليمان الفهد أن يكون (عمنا العود) شريطة أن يعشينا الليلة لكي يكون جديراً بهذا اللقب (فضحكنا وخرجنا معاً).

***

وهكذا استمرت الصداقة بيننا نحن الثلاثة (ناجي وسليمان وأنا) ولعدة أعوام قضيناها سوية نكتب في جريدة السياسة وفي صفحة واحدة هي الصفحة الأخيرة، إذ كان كاريكاتير ناجي هو ترويسة الصفحة، وكان يمتد طولاً إلى نصفها تقريبا بينما تحيطه من اليمين زاوية مصطفى أبو لبده (الجهات الأربع)، ومن اليسار زاوية سليمان الفهد (سوالف)، ومن الأسفل وبشكل عرضي زاوية هذرلوجيا. وكانت هذه الزوايا تشكل حماية له من كل الجهات كما كنا (نتمنن) عليه - دعابة - في بعض الأحيان.

***

وبالطبع فقد أبدع ناجي في تلك المرحلة الذهبية من تاريخ جريدة السياسة التي هي وللحق منطلق شهرته وانطلاقته المبدعة نحو العالم العربي بل والعالم أجمع، وذلك لما أتاحه له أحمد الجار الله في جريدته المغامرة آنذاك من حرية مطلقة لم يحصل عليها حتى الكُتاب الذين يشاركونه نفس الصفحة.

وقد استمر ناجي في جريدة السياسة منذ عام 1968- 1975م، ثم تركها وعاد إلى بيروت وكان يزور الكويت بين آونة وأخرى ويلتقي أصدقاءه وزملاءه الذين يعرفون أدق تفاصيل حياته أكثر من (المدعين) الذين كتبوا عنه بعدما استشهد.

***

عاد ناجي مرة أخرى للكويت، وعمل ثانية في جريدة السياسة وعاد إلى ثلة الأصدقاء والزملاء القريبين منه ومكث في السياسة حتى أواخر السبعينيات الميلادية، ثم عاد إلى بيروت وعمل في جريدة السفير، ثم عادة مرة أخرى إلى الكويت وعمل في جريدة القبس ثلاثة أعوام تمتد من 1983م - حتى أواخر 1985م، حيث تطلبت الظروف والتهديدات التي يتعرض لها أن ينتقل إلى مكتب القبس الدولي في لندن ليلتحق بالشاعر العراقي أحمد مطر الذي سبقه هناك والذي تعرض هو الآخر إلى مثل هذه الظروف وبقي ناجي في لندن حتى اغتياله في 22-7-1987م.

***

بقي أن نقول إن استذكار حياة صديقنا الفنان الراحل ناجي العلي في مقالاتنا الثلاثة هو ما نراه من جحود وتجاهل لدور منطقة الخليج في انطلاقة ناجي وشهرته، وللسنوات الخصبة في جل عمره الإبداعي التي قضاها في المنطقة ومن قبل (مزايدين) لا يعرفون ناجي أصلاً... ونكمل....




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد