لقد جعل الله هذا الشهر المبارك موسماً للعبادة والتوبة والأوبة والرجوع إلى الله تعالى، والمراجعة والمحاسبة الجادة، فالنفوس تؤوب إلى خالقها، والقلوب تهفو إلى بارئها، والفرص مهيأة للإفادة من روحانية الوقت، وفضل الزمان لتكون المراجعة فاعلة مؤثرة، ان على مستوى الأفراد أو على مستوى المجتمع، وما من شك أن المراجعة المؤثرة هي التي تعتمد الإحصاء والدقة، واعتبار
الأولويات والمهمات، لتقف على مكامن الخلل، ومواطن الداء والعلل، ثم يتبع ذلك عمل جاد مخلص، ينبعث فيه المسلم مراقباً ربه، مخلصاً لدينه، متأسياً برسوله صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة، وإذا كان الأمر معتبراً بالأولويات فلا أظن عاقلاً يرتاب في أن مسألة الأمن والاجتماع والتوحد من أبرز القضايا، التي لابد من الحديث عنها، لأن المعاناة مستمرة التي اندلعت شرارتها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً لاتزال تزداد قوة وضراوة وشراسة، والانحراف المتمثل في فكر متطرف غالٍ مليء بالفساد، متكئ على شبه يأخذ منحى يعد أخطر مرحلة فيه، إذ هو في هذه المرحلة يكشر عن أنياب الشر، ويتخلى عن القيم والأخلاق ليتخلق بأخلاق المنافقين من الغدر والخيانة واللؤم، حينما يستهدف قادة هذا البلد ومسؤولية ورجال أمنه، إمعاناً في الضلال والانحراف، وتعمداً للفوضى والإفساد، واستباحة للدماء المسلمة بالتفجير والقتل والاغتيال، فهل ندرك أننا في أخطر المراحل، وأن هذا الفكر إذا لم نعمل على تضييق الخناق عليه بالاجتماع والتوحد، وتحمل المسؤولية الكاملة فإن أول متضرر هو نحن - لا قدر الله-، هل يعقل أن يصل الفكر بهؤلاء إلى درجة يتعبد أولئك الشيطان، ويظنون أنهم يتقربون للرحمن، عجباً والله، تجاسر أولئك على حرمة الشهر، وتجاوزوا الحدود الشرعية وارتكبوا ماهو من صفات المنافقين الخلص الغدر والخيانة، والرسول صلى الله عليه وسلم بين ذلك، ونهى عن الغدر والخيانة، وبين أن فضيحة الغادر يوم القيامة أن ينصب له لواء، وينادى عليه على رؤوس الأشهاد، ولم يرخص في الغدر حتى في الجهاد، ولذا كان يقول في وصاياه للمجاهدين: (اغزوا ولا تغدروا)، ونفى الإيمان عمن أخل بالأمانة والعهد، فقال: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)، وإن حادث الاعتداء الإجرامي الذي حصل نهاية الأسبوع المنصرم، واستهدف به صاحب السمو الملكي الأمير المبارك الشهم - محمد بن نايف بن عبدالعزيز - حفظه الله من كل سوء - لخطب جلل، وفتنة عظيمة كتب الله في طياتها منحاً، ولا يجوز أن تمر دون عبرة وعظة، وإن أول المنح فيه أن الله عز وجل كشف النوايا الخبيثة، والمنهج الخطير لهذه الفئة، وبات ظاهراً للجميع أن الفكر يصل بمعتنقه إلى أن يستبيح الحرمات، وينقض العهود، ولا يراعي حرمة ولا قدسية، يستخف بالعلماء، ويهين السلطان، ويمكن لأعداء الإسلام، ويخذل الدين باسم الدين، ويسد أبواب الخير وطرق المعروف والبر، كل ذلك مع جهل في كثير من المسلمات والبدهيات، وضعف علمي وقصر في النظر، يبرز فيهم الانقياد الأعمى، والتبعية المطلقة، والتكفير دون روية، ولأجل هذه السمات أصبحوا أدوات للصراع السياسي، وباتت تستغلهم قوى الشر لضرب الإسلام في معقله والله المستعان، لقد فعل سلفهم من الخوارج في زمن علي رضي الله عنه ما يفسر هذه التركيبة النفسية التي تؤدي إليها أفكار التكفير، فقد أقبل طائفة من الخوارج من البصرة إلى أهل الكوفة، فلقوا عبدالله بن خباب بن الأرت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه امرأته، فقالوا: من أنت؟ فقال: أنا عبدالله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فأثنى عليهم خيراً، فذبحوه أمام زوجته حتى سال دمه في الماء، وقتلوا المرأة وهي حامل، وذلك سنة سبع وثلاثين من الهجرة، وهذا دليل على أن اختلال الفكر، وانحراف ميزان التدين يورث تراكمات لا تقنع بتحمل الفكر فحسب، بل ترى أنه لابد من العمل الذي يزعم أنه جهاد، وحقيقته انتحار فكري، وإفلاس منهجي قبل أن يكون انتحاراً بدنياً عياذاً بالله، والنتيجة مخرجات شوهاء لا تنصر ديناً، ولا تعمر دنيا، ولا تسترد حقاً، بل هي خراب ودمار والله المستعان، وثاني تلك المنح: ما من الله به من سلامة أميرنا المحبوب الفذ، سليل الأسرة الماجدة، ونجل أسد السنة وأمير الأمن والفكر، صاحب السمو الملكي الأمير: محمد بن نايف بن عبدالعزيز - حفظه الله-، الذي جسد حكمة وحنكة ولاة الأمر وتوجيهاتهم في التعامل مع أرباب هذا الفكر، وهدى الله على يديه فئاماً منهم، وكانت له أيادٍ بيضاء فيستهدف بمثل هذا العمل الغادر الجبان، ويكتب الله له السلامة، بل يخرج بعد ساعات من الحدث ليعطي رسالة لهذا المجتمع بأن سنة الله جل وعلا أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وأن الوطن يستحق أن يفادى بالنفس والمال، وأن الإرادة القوية التي أعلنها ولي الأمر - أيده الله ووفقه - لا تزال ثابتة أكيدة، تنهج منهج الحكمة، وتعذر إلى الله جل وعلا ثم إلى أبناء هذا المجتمع من أفعال هذه الفئة الضالة التي لم يجدِ مع بعضهم أسلوب الحكمة والحوار والمناصحة، لخطورة ما تحملوه من فكر.
كما أن من منح هذا الحدث الجلل أنه أحدث عكس ما يقصده أولئك من خلخلة وزعزعة وتفريق، فما إن وقع الحدث إلا والجميع يعيش صدمة وينتظر بفارغ الصبر النبأ السار، وما أعلن عن سلامة صاحب السمو الملكي الأمير محمد حتى انقلب هذا الحدث إلى نبأ سار، يتباشر الجميع به، ويهنئون أنفسهم وولاة أمرهم بسلامة فارس الأمن، وتمثلت في هذه اللحظات المواقف الشرعية من اللحمة والتعاضد، وتجديد الولاء والبيعة، وشعر الجميع أن الخطر عظيم، وأن الفكر خبيث لا يرعى حرمة ولا ذمة، حتى إن بعض المتورطين في هذه القضايا أدركوا خطورة فكرهم، وأعلن بعضهم براءته من هذا العمل، ومن هنا فإننا لسنا بحاجة إلى تأكيد حرمة هذه الأفعال وشناعتها، وما تضمنه هذا العمل الغادر من موبقات وعظائم، تأتي في مقدمتها قتل النفس بالانتحار المحرم المجمع على تحريمه، وقصد قتل نفس مسلمة بل كون هذه النفس من ولاة الأمر، والغدر ومحاولة القتل غيلة، والكذب بادعاء التوبة، ومقابلة الإكرام والسماحة باللؤم وسوء الطوية، والإضرار بالدين والوطن، وخدمة أعداء الأمة، والفتوى بغير علم إلى غير ذلك من سلسلة الانحراف والظلم والتعدي، فتلك من القضايا والأمور التي باتت محكمة قطعية، دلت عليها نصوص الكتاب والسنة القطعية، وقواعدها الكلية والفرعية، وشهدت بذلك البداهة العقلية والفطر السوية، فكيف يقدم أولئك على تقديم أنفسهم عبر عبوات ناسفة وهم يسمعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بشيء في الدنيا، عدب به يومَ القيامة)، وما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردَّى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجيء بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)، وماذا يجيب أولئك عن قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، نصوص قواطع، وأحكام زواجر، وبيان للعلماء ظاهر ولكن كما قال الله جل شأنه: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).
إن من دلالات هذا التطور الخطير، والمنحنى العسير أن المسؤولية التي يتحملها الجميع عظيمة جداً، فلا يسع أحد أن يتغافل أو يتعامى، أو يقصر موقفه على الاستنكار والحوقلة فحسب، فالجميع رجالاً ونساء، أفراداً ومؤسسات، وجهات علمية أو تربوية أو دعوية يجب علينا أن نعي خطورة هذه المرحلة، وأن نستشرف المستقبل بعمل جاد مخلص، يؤسس فيه لبيئات تبني العقول على أصول المنهجية الوسطية المنضبطة، وتتوافر فيه الجهود لحماية أمن الوطن ومكتسباته، وأن ندلف إلى عالم الشباب من أبنائنا وأقاربنا بأسلوب من الحوار لنقضي على بوادر الانحراف وعوامله، والأمانة عظيمة، والمسؤولية الكبيرة، والله إن لم نبادر ونتكاتف فإن أول المستهدفين بمثل هذه الأعمال والتصرفات هم ولاة الأمر ثم هذا المجتمع.
وإننا مع إيماننا بالله، وثقتنا بوعده ونصره، ثم ثقتنا بولاة أمرنا وحسن رعايتهم وحكمتهم في المعالجة إلا أنه يجب علينا وجوباً أكيداً أن ندرك أن المساهمة الإيجابية بتحمل المسؤولية الكاملة لها أثرها الكبير في درء المخاطر، وان من أبرز ما يضيق الخناق على حملة هذا الفكر أن يعتبر كل منا نفسه رجل أمن في موطنه، وأن يقوم بالإبلاغ عن كل من يحمل هذا الفكر أو يتعاطف معه، لأنه بحمله هذا الفكر يعد محدثاً حدثاً عظيماً يخرج به عن الفهم الصحيح لهذا الدين، وعما عليه العلماء، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من تستر على أحد من هؤلاء أو اواهم أو وافقهم في فكرهم المحدث فهو شريك لهم، ويدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من آوى محدثاً)، فيجب على من علم شيئاً من شأنهم أن يبادر نصحاً لله عز وجل، ولأئمة المسلمين، وحقنا لدماء المسلمين، وحماية للدين والوطن، وها نحن رأينا وعلمنا وتيقنا حكمة ولاة الأمر في تعاملهم مع المتورطين في هذا الفكر، وكيف ينظرون إليهم على أنهم أبناء الوطن وإن أخطأوا، وأعلنها أسد الأمن صاحب السمو الملكي النائب الثاني الأمير نايف بن عبدالعزيز حفظه الله بأن ما حدث لن يغير من هذه المواقف، وستظل سياسة الأبواب المفتوحة، وإنه لا يسعنا إلا أن نحمد الله على الولاية الحكيمة، وأن نسأله ونلح عليه في الدعاء أن يؤمننا في أوطاننا، ويحفظنا في أهلنا ودورنا، وأن يحفظ علينا ديننا وأمننا وولاة أمرنا، وأن يدفع عن هذه البلاد كيد الكائدين وفساد المفسدين، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.