Al Jazirah NewsPaper Saturday  12/09/2009 G Issue 13498
السبت 22 رمضان 1430   العدد  13498
بين الكلمات
الدكتور النجيمي والليبرالية 2/1
عبد العزيز السماري

 

كتب الشيخ الدكتور محمد يحيى النجيمي رداً مطولاً في عزيزتي الجزيرة يوم الجمعة 14 رمضان 1430، العدد 13490 على مقال كنت قد كتبته عن العلمانية في يوم الاثنين 26 شعبان 1430هـ،.. ولم يكتف فضيلته فقط بالمداخلة التي تثري الحوار، فقد تجاوز ذلك الحد المسموح في حق الرد المنهجي إلى محاولة إقصاء صاحب الرأي وإلباسه ثوب الليبرالية والعلمانية، بدلاً من تناول الأفكار بصورة عقلانية، لكنني في نفس الوقت وجدت له العذر في طريقته النقلية في الرد لأنه ربما لا يؤمن بالعقلانية كمنهج في التفكير والحوار، ويرفض كما اتضح لي دور الفكر والفلسفة في تاريخ تطور الشعوب، والتي كانت ولازالت تقوم بدور الناقل الحضاري لكثير من الأمم، وكان من الخطأ الجسيم أن يعتقد البعض أن الفكر والعقل لا يلتقيان مع الدين الحنيف، وكان الأصح أن يُقال إن الفكر والعقل لا يلتقيان على الإطلاق مع ثنائية التخلف والجمود..

لا أعتقد أن مقالي ذاك كان يستحق كل هذا العناء الفكري من فضيلة الشيخ، لكنني في حقيقة الأمر سعدت بمداخلته، واجتهاده في فتح أمهات الكتب الفلسفية بدءاً من الموسوعة الأمريكية الأكاديمية إلى معجم أكسفورد وانتهاءً بالمعجم الفلسفي لجميل صليبا، والذي انتزع من فصولهم عناوين موجزة عن الليبرالية، لكنها اقتباسات صبت في ميزان الليبرالية وليس ضدها، فالدولة الليبرالية حسب ما نقله، من واجباتها الحفاظ على حقوق المواطنين، واحترام الرأي الآخر، والدعوة للتسامح الديني، وعدم فرض العقيدة الصحيحة على المخالفين في العقيدة وأصحاب الملل الأخرى وهكذا!! أليست هذه يا فضيلة الشيخ شعارات المرحلة الحالية وعبارات الحوار واحترام الآخر في مرحلة الحرب على التطرف والإرهاب..

لم تكن الليبرالية محور المقال، فالحديث كان عن سيطرة العلمانية على لغة العلم والفلك وغيرها من العلوم الإنسانية، لكنني أشرت في بدء المقال عن حقيقة التوجهات الليبرالية في المجتمع بين العوام، أي تيار اللبرنة الاجتماعية، وخالفني الشيخ حفظه الله في ذلك بقوله (إن المخيمات الدعوية والدعوة ظاهرة شاهدة بصلاح هذا المجتمع )... وأنا لا أنكر وجود مخيمات دعوية لكنها بالتأكيد أقل عدداً من الثمانينات، برغم من تحفظي الشديد على ربط الدعوة والصلاح بالمخيم أو المعسكر، نظراً لما يحمل من إيحاءات عسكرنة وإنضباط، وهو ما يجعلنا نعود إلى (مربع رقم واحد) في ظاهرة التطرف، وذلك لأن مفهوم التخييم أو المخيم يعني التطرف خارج المجتمع مكانياً وزمنياً من خلال اختيار أسلوب التجمع في مكان ما خارج المجتمع، ومحاولة محاكاة أزمات أخرى، وهو ما يجعله مثالاً غير صالح للتعبير عن صلاح المجتمع، ودليل على إنكار ما يحدث فيه..

ومن أجل فهم أكثر لظاهرة اللبرنة الإجتماعية في المجتمعات الإسلامية، أدعو سماحته حفظ الله إلى تتبع سيرة دخول وانتشار جهاز الاستقبال الفضائي برغم من تحريمه في فترات سابقة، وإلى استدعاء تاريخ غيره من الملذات والمتع التي عادة ما يتم تحريمها في البدء ثم يتم كسر ذلك التحريم بالإقبال الشعبي عليها، بدءاً من التلفاز والراديو والصور الفوتوغرافية والمجلات المصورة ومحلات الفديو والأفلام الغربية والموسيقى وكرة القدم وبرامج المسابقات على إذاعات (الإف إم) برغم من تفاهتها وسطحيتها، وظاهرة حفظ الحقوق المادية للفنانين والمنشدين والدعاة.. وغيرها من المظاهر التي تدخل ضمن الحرية الفردية التي تمثل لب الليبرالية كما أشار إليه الشيخ الدكتور في رده.

الليبرالية ترتكز على منطلقات قابلة للتغيير، لا على مسلمات لا تتغير كما هوالحال في الدين والعقيدة السمحة، كذلك تختلف مفاهيم الليبرالية من مدرسة إلى أخرى، ومن مفكر إلى آخر، لكنها تظل تدور حول محور الحرية الفردية؛ فليبرالية نعومي تشومسكي ليس لها علاقة بليبرالية ميلتون فريدمان، فنعوم يرى أنها تنطلق من منظومة حقوق الإنسان مهما اختلف لونه وخلفيته الدينية، وهو يعتنقها كمعارض للمد اليميني المحافظ في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي كان منظرها الفلسفي الأبرز على الطرف الآخر هو ميلتون فريدمان زعيم مدرسة شيكاغو، الذي يرى أن الليبرالية لا يمكن تصورها دون إدراك أولاً أنها الحركة الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تتطور عبر الدوران حول حركة السوق الحر، والسوق هو الاجتماع في مكان وزمان محددين، من أجل عقد صفقات تجارية..

فحسب فريدمان الليبرالية هي ثقافة السوق الذي تجتمع حوله فعاليات المجتمع ومنتجاته، وهي أيضاً حركة العلماء والمثقفين والأدباء والفنانين الذين يجتمعون ويتعاونون مع بعضهم بعضاً لتقدم حقول فنونهم وتخصصاتهم، سواءً أكانت الفيزياء أم الكيمياء، أو الاقتصاد أو علم الفلك أو الأدب والشعر والفن، فهم حسب رأيه في الحقيقة يعقدون صفقات فيما بينهم، ويمثلون اقتصاد السوق من خلال جعل المردود المادي هو مؤشر النجاح.. كذلك يدخل في ذلك علماء الدين الذين يتواصلون بعضهم مع البعض، ومع أتباعهم، فهم أيضاً يمثلون أحد أوجه السوق إذا كان يصاحب اتصالاتهم دعاية وترويج إعلامي ينتج عنها برامج ولقاءات وفتاوى لها مردود اجتماعي ومالي على جميع الأطراف...

خلاصة الأمر في ما أود الوصول إليه أن الليبرالية من خلال مفهوم ميلتون فريمان المادي، وليس تشومسكي الإنساني، هي التي توغلت في مجتمعاتنا، وصار السوق لها بمثابة منارة المجتمع الذي تدور حوله مختلف الفعاليات، فحتى البرامج الدعوية دخلت هذا المضمار، وأصبح لها نجومها في القنوات الفضائية، ويصاحبها دعايات الماكياج والشامبو ومكائن الحلاقة وغيرها من مستلزمات الجمال النسائي..

لن أطيل في هذا الأمر لقصر المساحة التي أكتب من خلالها لكنني أثق في قدرة الشيخ الدكتور على رؤية المجتمع من زاوية محايدة وذلك لكي تتضح الصورة أمام ناظريه، وسأكمل في مقال الاثنين القادم تعليقي على تناوله للعلمانية والعلم التجريبي.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد