هو حادث بشع بكل المقاييس ومحاولة بائسة تلك التي هزت أوساط المجتمع السعودي والعربي والعالم يوم الخميس الموافق للسابع من شهر رمضان المعظم، تجلت فيها أبشع أنواع الغدر والخيانة والخديعة ونكران الجميل في مشهد تراجيدي بالغ التأثير بالغ الألم بالغ الفجيعة.
كانت محاولة يائسة لقتل من مد يده لهم واحتواهم وأكرمهم وأمنهم ورعاهم ليكونوا أعضاء فاعلين في مجتمعهم. أحيانا قد لاتهم التفاصيل لكن في مثل هذا الحادث المفجع تهمنا تفاصيل ماحدث لننسج في أذهاننا إعجابا مضاعفا وإطراء مميزا وحبا صادقا لهذا الرجل الكبير محمد بن نايف. بكل أريحية وبكل عفوية وبكل كرم أخلاق يستقبل سمو الأمير الخلوق في منزله الخاص ذاك الذي قدم من أقصى البلاد ليعلن توبته أمام الأمير الذي لم تسعه الفرحة بهذا القادم فطلب من الحرس عدم تفتيشه لأنه ضيفه وهو من يحتفي بضيوفه غاية الاحتفاء ويكرمهم غاية الإكرام ويستقبلهم أروع استقبال. دخل الغدر فاستقبله الوفاء والكرم والجود، وجلس الغدرليفجر نفسه ويزهق النفس المعصومة ويقتل نفسه أبشع قتلة وينجي الله هذا الرجل الذي أحببناه لالدنيا نرجوها أو مكانة نؤملها أو حظوة نسعى لها بل لما سمعنا عن كرم أخلاقه وتواضعه وبره وإحسانه وطيب معدنه وسمو قيمه وابتسامته التي أسرت القلوب وكلامه اللين الذي ينساب دررا وجواهر. الحمدلله ما وسعنا الحمد والشكر لله على حفظه لهذا الرجل الرمز الذي كان بحق مهندس المناصحة ورائدها الذي بذل من وقته الكثير ليعيد لحمة المجتمع ويرشد من تاه إلى طريق الهدى والنور.
مضى الحادث وأصبح في حكم الماضي لكن الدروس المستقاة منه حري بنا أن نعرض لها لتكون لنا عبرة وعظة ودروسا نتعلمها ونعلمها:
أولا: محاولة اغتيال رجل بمكانة ومقام الأمير محمد أمر مقلق وضربة لو تمّت (لاقدر الله) ستكون بلا شك مؤثرة موجعة لكن الله رد الفاعلين بكيدهم لم ينالوا ما أرادوا، ولاشك أن في محاولة الاغتيال الآثمة جرأة كبيرة على هيبة الدولة ومحاولة إعطاء ايحاء بأن التنظيم مازال يضرب في الوقت الذي يريد وبالطريقة التي يختار.
ثانيا: قتل النفس المعصومة التي جاءت الآيات والأحاديث بعظم حقها والتشديد على حرمة قتلها أو النيل منها أو المساس بها، والقتل بغير حق من أكبر الكبائر ومن السبع الموبقات قال تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما)، والرسول عليه الصلاة والسلام قال لأسامة بعد أن قتل المشرك الذي نطق بالشهادتين: أقتلته بعد أن قال لاإله إلا الله ورددها مرارا ثم قال: ماذا تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة، وقال عليه الصلاة والسلام: لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول:
(ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً)، كل هذه النصوص يفسرها الجناة حسب أهوائهم وتنظيراتهم وفهمهم المغلوط لنصوص الوحيين. وقد تجاوزوها يوم أن اعتبروا كل من يقف في طريقهم أو يخالف منهجهم حلال الدم والمال والعرض.
ثالثا: محاولة الاغتيال محاولة استفزازية بامتياز لو قدر لها النجاح (لاقدر الله) ستجعل الدولة (بزعمهم) تتخبط وتأخذ الناس بالظنة وتفقد الثقة في مواطنيها وبالتالي تتأزم العلاقة بين الحاكم والمحكوم مما يثير حفيظة الناس ويوغر الصدورعلى الدولة. ولاشك أن هذا لن يكون بدليل تأكيد مجلس الوزراء برئاسة خادم الحرمين الشريفين على المضي بالسياسة ذاتها في التعامل مع الإرهاب.
رابعا: محاولة نشر الفوضى في البلاد فلو فقدت الدولة صبرها وحلمها وأصبحت (لاقدرالله) أداة بطش وتنكيل عمت الفوضى وزاد الامتعاض وبالتالي زاد التعاطف مع الفئة الضالة هكذا زعموا. وهي محاولة لتشكيك المواطن في النظام الأمني وترسيخ مفهوم (عدم الثقة) في الدولة وبالتالي تشجيع أي حالة تمرد تؤدي إلى إشاعة الفوضى، وهذا ما لا يمكن أن يحدث إن شاء الله مهما حدث من ممارسات إرهابية.
خامسا: المنهج التكفيري منهج خطير يقصي كل من يخالفه ويجيز التخلص منه ضاربا عرض الحائط بنصوص الوحيين فالكافر في زعمهم حلال الدم والمال ولاحرمة له متناسين أو غاضين الطرف عن أن من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل الجنة. هذا المنهج التدميري ينطوي على تسويغ جميع الأعمال للوصول إلى الهدف فمجرد أن تتهم إنسانا بالكفر كاف (على حد زعمهم) أن تفعل به ماتريد فلا نصوص قرآن ولا سنة تنطبق عليه، ولذا لابد من اقتلاع هذا النهج من جذوره وأوجه خطابي للعلماء والمصلحين ليقوموا بدورهم في ذلك.
سادسا: المكون الأمني أو منظومة الأمن من المنظومات التي نفخر بها ونراهن عليها، وإذا أراد الله بأمة بلاء أذاقها لباس الجوع والخوف، ودعوة إبراهيم عليه السلام:( رب اجعل هذا البلد آمنا). كذلك المكون الاقتصادي والمكون الديني كلها تجعل هذه البلاد مستهدفة من الحاقدين المجرمين، وهذه الدولة قامت ونشأت على هذا مكون الدين والأمن واجتمعت بعد طول شتات، ولاشك أن التفجيرات التي شهدناها في مدينة الرياض في أكثر من موقع، وآخرها حادث الاعتداء المقزز والهمجي كرست الانكار والرفض والمقت والغضب علىمنفذيها ومدبريها، فالأمن ليس محل مساومة متى ما فقد فقدت الحياة بريقها، والنيل منه نيل من حياة المواطن وإرجاعنا إلى المربع الأول يوم أن كانت جزيرة العرب مسرحا للغارات والقتل وسفك الدماء. يقول تعالى: وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لايحب الفساد. حتى في المعارك التي قامت بين المسلمين والكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت مؤطرة بأطر لاتتجاوزها فلا قتل لمسن أو طفل ولااقتلاع أشجار ولاهدم أو تدمير. لابد أن نكون جميعا رجال أمن نعزز هذا التلاحم بين الحاكم والمحكوم ونطوح بكل محاولات النيل من أمن الوطن الغالي.
سابعا: تولد لدى الناس ولله الحمد قناعة بمثالب وسوءات النهج التكفيري وخطورته حتى غدا فكرا ممجوجا مذؤوما مدحورا ولاشك أن التوعية التي انتهجتها الدولة وفقها الله في تسليط الضوء على هذا الفكر المنحرف آتت أكلها، فالخير كل الخير في اتباع نهج الرسول عليه الصلاة والسلام ولزوم الجماعة ووحدة الصف ومن جاء ليفرق أو يحدث فتنة فلا مكان له بيننا. الفكر التكفيري مجّه الصغير قبل الكبير، وعلينا أن نتقي الله في تربية أبنائنا وتنشئتهم التنشئة الصحيحة ولانتركهم عرضة لأصحاب الأهواء والفكر المنحرف.
ثامنا: قل موتوا بغيظكم، بلا شك أن رجوع الكثير من أصحاب الفكر الضال إلى جادة الصواب لم يرق لمنظريهم وشيوخهم فقرروا القيام بعمل خطير يعزز مكانتهم ويغازل التائبين الخارجين من مربع التكفير عبر إعطائهم جرعة من الثقة بأن التنظيم قادر على فعل مايريد، وبالتالي تشجيعهم على العودة والنكوص. إن رجوع واهتداء الكثير من المطلوبين مؤشرواعد ونجاح كبير يسجل بمداد من فخر لسمو الأمير وللوطن الغالي. إن الكثير ممن عصف الفكر الضال بهم هم من حدثاء الأسنان لاباع لهم في العلم الشرعي ولاحظ لهم من تجارب في الحياة فكانوا عجينة شكلها أصحاب الأهواء حتى باتت قنابل موقوتة تدمر كل شيء.
تاسعا: عطفا على ماحدث لابد من تشديد الإجراءات الأمنية على من يرغب في مقابلة رمز من رموز الأمن. رموزنا يجب أن يحاطوا بإجراءات أمنية صارمة باستخدام أحدث التقنيات العلمية، وليس بالضرورة أن يقوم الأمير محمد وفقه الله بمقابلة العائدين إلا ماتقتضيه الضرورة، ويترك ذلك للجان تعينها وزارة الداخلية، ولاشك أن تضحية الأمير الشاب وإيثاره القيام باستقبال التائبين يدلل على حبه الخيرلهم والرغبة الصادقة في رجوعهم لجادة الصواب.
عاشرا: كما صرح الأمير نايف وزير الداخلية- وفقه الله- بالأمس في غرفة جدة بأن منهج المناصحة سيستمر بالرغم من هذا الحادث الآثم، وهذا بلا شك يؤكد ما يتميز به سمو النائب الثاني من بعد نظر وحصافة وعقل راجح، وفيه تفويت الفرصة على الفئة الضالة للنيل من مكتسبات هذا البرنامج المبارك وإغاظة لهم وشفاء لصدور المؤمنين. لن يؤثر مثل هذا الحادث بإذن الله ولن يفت في عضد الدولة وكلنا محمد بن نايف في الدفاع والذود عن حياض هذا الوطن.
الحادي عشر: لابد من تطوير المناهج بما يعزز العلاقة بين الحاكم والمحكوم ويرسخ النهج الشرعي في طاعة ولي الأمر وخطورة الخروج عليه أو إحداث فتنة، وهناك من نصوص القرآن والسنة وسير السلف مايؤكد وحدة الصف المسلم وأن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار. العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي علاقة بناء لاهدم فيها تقديم النصح للحاكم والدعاء له بظهر الغيب. إن نعمة الأمن التي تنعم بها هذه البلاد هي من أعظم نعم الله علينا ولابد من رعايتها حق الرعاية بتسخير وتذليل كل السبل الكفيلة بتحقيقها واستمرارها. ولابد من اختيار جيد للمعلمين وتعزيز مفهوم الطاعة لولي الأمر وربطه بالأجر والثواب من الله، فلزوم الجماعة والبيعة من الأمور التي حث عليها الإسلام فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية. كذلك لابد من تسليط الضوء على ضوابط التكفير وأنه من أخطر الأمور
يمضي شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في (فتاواه (في بيان منهج أهل السنة ويتعرض لمسألة خطيرة طالما زلت فيها أقدام وضلت فيها أفهام، وصدرت فيها أوهام، ألا وهي مسألة تكفير المسلم وبيان موقف أهل السنة والجماعة من هذه المسألة، فيقول - رحمه الله - ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة؛ فإن الله تعالى قال {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إليه مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }البقرة ، وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم والخوارج المارقون الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم ؛ قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين من بعدهم ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار، ولهذا لم يَسْبِ حريمهم ولم يغنم أموالهم.
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خطبهم في حجة الوداع ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا ، وقال - صلى الله عليه وسلم - (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه )، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله )وقال (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار )، قيل : يا رسول الله! هذا القاتل؛ فما بال المقتول قال {إنه أراد قتل صاحبه)، وقال : (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وقال: (إذا قال المسلم لأخيه : يا كافر؛ فقد باء بها أحدهما )، وهذه الأحاديث كلها في الصحاح كل هذا الحشد من النصوص يجب أن يخصص لها منهج مستقل يدرسه مدرسون مقتدرون ينتدبون لذلك.
akheliwi@kacst.edu.sa