كان أول صراع بين نظام الاستبداد ومنهج الديموقراطية ممثلاً في صراع الجارتين اللدودتين، أثينا وأسبارطة، في العصور القديمة؛ فأسبارطة كانت الدولة العسكرية التي تحكم بالنار والحديد، وتولي جل اهتماماتها لفرض منهجها الأحادي الذي يخدم أغراضها ومصالحها العسكرية والسياسية، بينما كانت أثينا تمثل القوة الناعمة للحضارة الإغريقية، والتي تهتم بالجوانب الفكرية والثقافية والاقتصادية، وتؤمن بأن الحرية هي الخيار الأمثل لتطور الإنسان على وجه الأرض.
كان أهم جذور الخلاف بين أثينا وأسبارطة يتركز حول موقفهما من النقد والفكر والفلاسفة والفنانين؛ فقد كان الأثينيون يحكمون بالديموقراطية ويبجلون المفكرين والفلاسفة والفنانين، بينما كان الأسبارطيون يغلقون الأبواب أمامهم ويعتبرونهم خطراً؛ لأنهم يشجعون على خروج الأفكار الجديدة، ويعتقد الأسبارطيون - ضمن اعتقادات أخرى - أن الفكر والفنون والآداب نوع من الضعف والاستسلام للعامة.. لكن أثينا اختارت طريق الخلود في تاريخ الإنسانية؛ فقد طبقت في عهد بركليس نظاماً ديمقراطياً أساسه احترام الدستور وحقوق المواطن اليوناني، وكان لبركليس نص مشهور يشرح فيه سياسته في الحكم: (إن دستورنا مثال يحتذى؛ ذلك أن إدارة دولتنا توجد في خدمة الجمهور وليست في صالح الأقلية كما هو الحال لدى جيراننا، لقد اختار نظامنا الديمقراطية..).
رسمت تلك الصورة بين المدينتين أبعاداً رمزية في قضية الخلاف المزمن بين (الساسة)، و(المفكرين)، لتبقى أثينا مدينة أفلاطون الفاضلة، والواقع الإنساني المثالي الذي يحلم بتحقيقه الفلاسفة والمفكرون في الحياة الدنيا، بينما ظلت أسبارطة صورة مفبركة للمدينة الفاضلة عند الساسة وقادة الدول في فترات طويلة من التاريخ الإنساني، والتي حاولوا إعادة إنتاجها من خلال التحكم في (الحقيقة)، وفي فرض أفكار محددة على الناس، لكن الإيمان بحقيقة تلك الأمور المفروضة لم يكن على المستوى الشعبي بالقدر الذي يريده الساسة؛ فمحاولة فرض وهم الوطن المثالي والمتكامل بأدوات الاستبداد والقمع غالباً ما تبوء بالفشل؛ لأنها تفتقد لأجواء حرية الاختيار، وتجعل من الطاعة العمياء أحد الواجبات الوطنية.
لكن التاريخ الحديث وثورات التحديث والعلوم والتكنولوجيا أسقطت ورقة التوت عن فضيلة المنهج الأسبارطي المزعومة أمام تجارب العصر الحديث؛ فعمر الدول الديموقراطية تجاوز ما حاول العلامة ابن خلدون تأكيد صلاحيته الزمنية في مقدمته التاريخية؛ فقد أصبحت حضارة الدول الغربية - بفضل الديموقراطية وحقوق الإنسان والحرية المسؤولة - سبباً لاستمرار الغرب سادة للعالم الحديث لقرون عديدة، وأيضاً في طول أعمار تلك الدول التي يضمن لها احترام قانونها الانتخابي والدستوري أن يستمر وجودها..
يؤدي الاستبداد إلى قصر العمر الزمني للدول، وكان ذلك سبباً في هلاك أسبارطة، كذلك فتك الاستبداد بالدول التي استلهمت تلك التجربة في التاريخ الحديث، وصارت تتساقط الواحدة تلو الأخرى، على الرغم من امتلاك بعضها لترسانة ضخمة من الأسلحة المتطورة، وتمتد خريطة ذلك السقوط من الاتحاد السوفيتي الشيوعي، وألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، وإسبانيا العسكرية، وإلى جنوب شرق آسيا والهند ودول أمريكا الجنوبية، وقد تلاشت تلك التجارب في تلك البلاد؛ لأنها تقيد الإنسان وتفرض عليه حكم الأقلية، وتسرق مصالحه؛ ولهذا كان المنتصر في نهاية الأمر هو أثينا، ولم تكن أسبارطة، على الرغم من انتصارها العسكري الأول؛ فقد اجتاح نظام أثينا الديموقراطي مناطق نفوذ استبداد أسبارطة، وكان ذلك بمثابة الانتصار الأهم في تاريخ الإنسانية..
لكن العرب والمسلمين لا يزالون يحلمون بخطأ تلك النتيجة، ولا يزال بعضهم يعيش حالة استثنائية، ويحلم إلى اليوم بأن أسبارطة كانت (الحقيقة)، وأنها هي التي انتصرت عسكرياً على أثينا الديموقراطية، وهو ما حدث بالفعل؛ إذ تحطمت ديموقراطية أثينا على يد هجمات أسبارطة العسكرية، لكنه كان انتصاراً قصير الأجل، وأن الاستبداد هو الحقيقة التاريخية، ولا شك أنهم واهمون؛ فالعالم يتغير من حولهم، وقد وصل التغيير إلى شواطئ وصحاري إفريقيا، وفي حال تجاوزت إفريقيا أنظمة الاستبداد وحكم العسكر، ودخولها إلى نادي أثينا الديموقراطي، فإن معاقل العرب ستكون بمثابة آخر حصون أسبارطة التاريخية في العالم الحديث، وعندها لن يكونوا في مأمن من انتقام أثينا الأخير ضد أسبارطة.